خلفت الوثائق التي كشفت عنها هيئة الحقيقة والكرامة في تونس صدمة بالنسبة للشارع التونسي حول تواصل استغلال فرنسا للثروات الباطنية منذ الاحتلال، احتلال ما زالت أذرعه تمتص خيرات دول عدة في إفريقيا التي تكبلها الاتفاقيات السرية للاستقلال، تعطي لفرنسا مزايا تكبل من خلالها اقتصاديات هذه الدول، وتمنع عنها الاستفادة كاملا من ثرواتها. الوثائق التي هزت تونس أول أمس، سبقتها تصريحات نائب رئيس الحكومة الإيطالي دي ماتيو التي اتهم فيها فرنسا بإفقار إفريقيا، وبحسبه، فإن اتفاقيات الاستقلال تجعل من فرنسا خامس اقتصاد في العالم، ودون ما تدره باريس من الدول الإفريقية لكان اقتصادها في المرتبة 15 عالميا، يقول دي ماتيو. هذه التصريحات التي أغضبت فرنسا، لم تخالف في المضمون ما بدر عن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك سنة 2008 لما قال "من دون إفريقيا فرنسا ستنحدر إلى مصاف دول العالم الثالث". وكان سابقه فرانسوا ميتيران صرح عام 1957 أنه "من دون إفريقيا، فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن الواحد والعشرين". مخاوف فرنسا قبيل استقلال الدول الإفريقية، بنت عليها إستراتيجيتها لما بعد الاستقلال، بهدف وضع يدها على اقتصاديات هذه الدول، التي تعد موردا هاما للاقتصاد الفرنسي، وعبرها تتحكم في مصائرها السياسية. فكانت الخطط عبر ما اصطلح عليه "فرانس أفريك" وكذا عملة الفرنك الإفريقي أو "سيافا".
تعتبر العملة الإفريقية الموحدة أو "سيافا"، وجه من أوجه الربط الاستعماري الفرنسي للدول الإفريقية ال14، وهي كل من كوت ديفوار وبنين وبوركينا فاسو وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسينغال وتوغو والكامرون وإفريقيا الوسطى والكونغو والغابون وغينيا الاستوائية وتشاد، وترتبط هذه العملة مباشرة بالبنك الفرنسي المركزي وبالنظام المصرفي الفرنسي، حيث تطبع العملة في فرنسا، ويقتضي على هذه الدول وضع 50 بالمائة من احتياطياتها الأجنبية في البنك المركزي بباريس، وتحت سيطرة الوزير الفرنسي للرقابة المالية. وحسب جريدة "لوموند" الفرنسية، فإن احتياطيات الدول الإفريقية في البنك الفرنسي وصلت 72 مليار أورو، سنة 2015، في حين تحدثت مصادر أخرى عن وجود ما مقداره 500 مليار دولار، ولا تستطيع هذه الدول الوصول إلى هذه الأموال بأكثر من 15 بالمائة في السنة، وفي حالة احتياجها للمزيد فمجبرة على اقتراضها من الخزانة الفرنسية مقابل فوائد. هذه الآليات تجعل من الاقتصاديات الإفريقية المعنية مرتبطة مباشرة بالاقتصاد الفرنسي، وتتأثر بتقلبات سعر الأورو، حيث أن هذه الدول في إفريقيا التي من بينها أضعف الاقتصاديات في العالم مرتبطة بإحدى أقوى الاقتصاديات في العالم. وتجري نقاشات واسعة في هذه الدول من أجل وقف تداول عملة "سيافا"، مقابل عملات محلية، لكن تبقى مناشدات دون صدى بحكم الهيمنة الفرنسية على هذه الدول سياسيا. ويوجد الكثير من التجارب في الماضي حين حاول زعماء دول بعد الاستقلال الخروج من قبضة "سيافا" أو نظام الحصرية، ووجدوا أنفسهم إما خارج الحكم بتدبير انقلابات ضدهم أو اغتيالهم، وهناك الكثير من الأمثلة على غرار سيلفانوس أوليمبيو، أول رئيس منتخب لجمهورية توغو الذي اغتيل من طرف جنود مدعومين من فرنسا في 13 جانفي 1963، ثلاثة أيام فقط من بدء طبع عملة محلية ووقف التعامل بالعملة الإفريقية الموحدة، مرورا بما جرى في رواندا وصولا إلى الانقلاب الذي دبرته فرنسا ضد رئيس كوت ديفوار لوران غباغبو لأنه رفض الوصاية الفرنسية على مادة الكاكاو وحاول تحرير تجارتها. ولا يمكن الحديث عن فرانس أفريك دون الحديث عن مهندسها ومؤسسها وهو جاك فوكار، أو "السيد إفريقيا" بالإليزي الذي شغل منصب المستشار الشخصي للرئيس الفرنسي ديغول في بداية الستينات، حيث استطاع أن يبني شبكة نفوذ عبر "فرانس أفريك" مكنت فرنسا من بسط هيمنتها على مستعمراتها الإفريقية، مدشنا العهد الجديد للاستعمار الفرنسي لإفريقيا، وارتكز عمله على تقديم المساعدة لأشخاص معروف عنهم ولاؤهم لفرنسا للوصول إلى الحكم، ومن خلال هؤلاء تم تنفيذ اغتيالات وانقلابات في العديد من الدول الإفريقية التي رفض زعماؤها الوصاية الفرنسية، كما كان الحال مع موديبا كيتا في مالي ودايفيد داكو في إفريقيا الوسطى، وتوماس سانكرا في بوركينا فاسو، وكثيرة هي الأمثلة عن يد فرنسا في التأثير على أنظمة الحكم في إفريقيا وسيطرتها عليها إلى حد الآن.