أثّر وباء كورونا بشكل كبير على الاقتصاد العالمي، ووصل تأثيره إلى بلادنا.. الفيروس تسبّب في تعثر جميع القطاعات الاقتصادية ولعدة أشهر، ويبدو أن الحكومة تعيش أزمة عجز تمويل حالية، دفعتها إلى التفكير في الاستدانة الخارجية. في حين يسعى الاقتصاد الإسلامي إلى الحدّ من الدَّيْن وضبطه في حدوده الدنيا، ذلك لأن الإغراق في الديون له آثار اقتصادية وسياسية واجتماعية سيئة، يقول صلى الله عليه وسلم: “إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف”... وفي ظل الأزمات، تتبنّى فلسفة الاقتصاد الإسلامي الضغط على الطلب بترشيد الاستهلاك الذي يمنع الإسراف والتبذير، ووضع الضوابط الشرعية للقرض العام، ومن أهم هذه الشروط الآتي: أن يكون القرض في حالة الضرورة القاهرة، أو المصلحة العامة الملحة مع خلو خزانة الدولة من الأموال اللازمة لسد الحاجة ودرء المفسدة، أي أن يكون التوجه إلى الاستدانة على سبيل الاستثناء وليس على سبيل الاعتياد، لأن العادة محكمة كما نص على ذلك الفقهاء من جملة قواعدهم، وما تقتضيه العادات هو إشباع الحوائج بالكسب المشروع والسعي المشكور، قال تعالى: {فإذا قضيت الصّلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}، وقال تعالى: {يا أيها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلّا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. أن يكون التوجه إلى الاستدانة عند الحاجة وليس في حال السعة لمجرد إمكانها، لأن الاستدانة نوع مسألة والمسألة لا تجوز إلا لأصحاب الحوائج، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلّت له المسألة حتّى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتّى يصيب قوامًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتّى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلّت له المسألة حتّى يصيب قوامًا من عيش أو سدادًا من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سُحْتٌ يأكلها صاحبها سحتًا”. كما يحدد الفقهاء الالتجاء إلى القروض العامة بضابط ترتيب مصادر الإيرادات، فلا تلتجئ الدولة إلى القروض وفي خزانتها من الموارد ما يكفي لدرء الأخطار ودفع الأزمات. فلا تقوم بإجراء الاقتراض إلا بعد استنفاد جميع الموارد المتاحة لبيت المال، وفي هذا القيد يقول الإمام الجويني: (فإن كان في بيت المال مال استمدت كفايتها من ذلك المال، وإن لم يكن في بيت المال مال نزلت على أموال كافة المسلمين، فإذا حدث مال تهيأ ما حدث للحوادث المستقبلة). القدرة على السداد بأن يكون لخزينة الدولة دخل ينتظر، لئلا تتراكم الديون فتعجز الدولة عن سدادها، ما يؤدي إلى المخاطرة بالأموال ومستقبل الأجيال وإلى هذا القيد أشار الفقهاء كالغزالي والجويني والشاطبي. قال الشاطبي: (والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجى، وأما إذا لم ينتظر شيء وضعفت وجوه الدخل بحيث لا يغني كبير شيء، فلا بد من جريان حكم التوظيف). يرفع الاقتصاد الإسلامي دائمًا شعار “الإنفاق على قدر الكسب”، فمن لا يملك المال الوفير لا يجوز له الاستدانة من أجل شراء سلعة تفوق إمكانات الفرد أو المجتمع. قال الإمام الماوردي: (جاز لولي الأمر إذا خاف الفساد أن يقترض على بيت المال ما يصرفه في الديون دون الارتفاق). أن لا يؤدي الاستقراض إلى ضرر أكبر بالمسلمين، ويكون الضرر –عادة– من القروض الخارجية العامة، حيث يعدّ القرض الخارجي سلاحا بيد الدول الدائنة تتّخذ منه ذريعة للتدخل في شؤون البلد المقترض، ووسيلة للحدّ من حريته. ترشيد الإنفاق العام، وذلك بالاستغناء بما هو ضروري أو حاجي عن كل ما هو كمالي أو تحسيني، وبعد هذه السياسة في الإنفاق فإن لم تكن فيها سدّ للثغرة تلجأ الدولة إلى الاستلاف من الأفراد، وذلك لأن القرض ضرورة قاهرة أو مصلحة ملحة والضرورة تقدر بقدرها. والواقع في الدول المعاصرة أنها تفضّل الاعتماد على القروض الداخلية لأنها تعدّ نوعًا من إعادة توزيع الدخول، والتطبيقات الإسلامية اعتمدت القروض الداخلية، فقد جهزت الدولة الإسلامية بعض معاركها من قروض داخلية، أو التجأت إلى مضاعفة الزّكاة على سبيل القرض كما حدث مع العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، واعتمادًا على هذه الروايات تأسّست أقوال علماء الفكر المالي في الإسلام. قال الجويني: (والذي يجب التعويل عليه في ذلك أنه إذا ألمّت ملمة واقتضى إلمامها مالًا، فإن كان في بيت المال مال استمدت كفايتها من ذلك المال، وإن لم يكن في بيت المال مال نزلت على أموال كافة المسلمين). أمّا الحلول التي نقترحها دون اللجوء إلى الاستدانة فهي: العمل بالممكن ومن دون اللجوء إلى الاقتراض، والاعتماد على الإمكانات الوطنية المتاحة (وبخاصة الزراعية والثروة الحيوانية والبحرية..). وهناك بدائل تتمثل في تنويع مصادر الدخل من خلال الاستثمار في مختلف القطاعات، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة.. ندعو إلى اللجوء إلى الأدوات المصرفية الإسلامية وطرحها في الأسواق الاقتصادية، من خلال صكوك الإجارة والمشاركة والمضاربة والمرابحة والسّلم والاستصناع، وتشجيع البنوك –وبخاصة المصارف الإسلامية- على المشاركة وتنفيذ استثمارات كبيرة في المشاريع الصناعية والزراعية الفعلية.. كما ندعو إلى رفع مستوى الثقافة الاقتصادية عند الناس والحكومة ومحاولة إشراك الناس بالاقتصاد، وذلك من خلال المشاريع والدخول في الأعمال. ونشدّد على زيادة الرقابة على الصرف الداخلي للدولة، وتكثيف مراقبة الفساد وملاحقة المفسدين، واسترجاع الأموال المنهوبة. [email protected]