لقد جعل الإسلام الحرية أصلا في اعتقاد الإنسان، حيث منع إكراه الناس على الإسلام، قال تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} البقرة:256، وهذه قاعدة كبرى من قواعد دين الإسلام وركن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يجيز إكراه أحد على الدخول فيه، ولا يسمح لأحد أن يكره أحدا من أهله على الخروج منه، وفي سلم هذه المعاني تندرج آيات عديدة، حيث قال تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} يونس:99، وقال أيضا: {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أن لزمكموها وأنتم لها كارهون} هود:28. إن هذه الآيات صريحة في نفي الإكراه عن الدين؛ لأن القرآن العظيم دأب على حث الناس أن يؤمنوا بطريق التدبر والتفكر والتأمل والنظر، وهذه المعاني لا تجتمع وطريق التهديد والوعيد والرهبة والخوف التي يقتضيها الإكراه، فالإيمان لابد أن يكون بمحض الاختيار ولا سبيل للإكراه فيه. ومن هنا، كانت نظرية العقيدة الإسلامية التزام التسامح وحرية الحياة الدينية لجميع أتباع الديانات الأخرى ما لم يفسدوا أو يدعوا المسلمين لدينهم، ومن هنا قال الدريني: (الحرية أصل الاعتقاد، إذ لا إكراه في الدين، فكان التحكم منتفيا ومحرما في الشرع أصلا، عقيدة ومعاملة). وبناء عليه، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجوز الإكراه على الإسلام إذا كان المكره ذميا أو مُستَأْمَنا، فهذا "كتابه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار واليهود" بعد هجرته إلى المدينة: (لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم)، وجاء أيضا في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى ملوك حِمير: (وإنه من أسلم من يهودي أو نصرانيٍ فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم. ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يُردُّ عنها وعليه الجزية...)، وجاء في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى أساقفة نجران: (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي إلى الأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران، وكهنتهم، ومن تبعهم، ورهبانهم: إن لهم ما تحت أيديهم، من قليل وكثير من بِيَعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوارَ الله ورسوله. لا يُغَيَّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته. ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه. على ذلك جوار الله ورسوله أبدا ما نصحوا واصطلحوا فيما عليهم، غير مثقَلين بظلم ولا ظالمين). ولقد نقلت لنا السيرة النبوية المطهرة مواقف وأحداثا يندر وقوعها في تاريخ الإنسانية، بل قد لا يتصوّر كثير منا الآن حدوثها في ديارنا الإسلامية، ألا وهي صلاة وفد نجران في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم نحو المشرق، وقد كانت بحضرته وبين أصحابه المؤمنين الذين هموا بمنعها لولا كلمة خرجت من الرسول صلى الله عليه وسلم: (دعوهم)، لأنهم أتباع دين، وضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضيف المسلمين، ولا معبد لهم في المدينة. وفي سلم هذا الفقه العالي تدرج خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمرنوا على ممارسته، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب معاهدته إلى أهل بيت المقدس، وقد جاء فيه ما نصه: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، إنه لا تُسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم ولا يضار أحدٌ منهم، ولا يسكن بإيليا معهم أحد من اليهود...). إن هذا المنهج الواعي في التعامل مع الديانات السماوية الأخرى، والذي طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده، كان هو منهج الدولة الإسلامية فيما بعد. ففي العهد الأموي والعباسي وما بعده، وكذا العثماني، قام الحكام المسلمون بتأمين حرية العقيدة للأقليات ولإقامة شعائرها دون أي موانع أو عقبات، والسماح بتأسيس جمعيات وأوقاف مختلفة لتعليم أطفالهم عقائدها والمحافظة على كيانها، وتعمير بيوت عبادتها، ويعدّ مسلمو الأندلس والعثمانيون أمثلة مشرقة في أوروبا في هذا الخصوص، فقد أفاد هؤلاء المسلمون الغرب كثيرا في مجال العلم والمعرفة، وفتحوا أمامه الطرق المؤدية إلى عصر النهضة، وكانوا من أوائل بناة محاسن المدنية وفضائلها، والمعماريين الأوائل لها، وعاشوا دينهم ولم يتعرضوا لدين أحد ولا للغته، وأظهروا إرادة لا تجد لها نظيرا إلا في أدب المدن الفاضلة. وفي مصر، جلب الفتح الإسلامي للقبط أنموذجا للحرية الدينية التي لم ينعموا بها من قبل ذلك بقرن من الزمان. وقد اعترف المنصفون من المؤرخين الغربيين بهذا الخلق النبيل والفكر السامي الذي يتعاملون به مع غير المسلمين، فقد كتب البطريرك المسيحي سيمون من مرو، أن العرب الذين أورثهم الله ملك الأرض لا يهاجمون الدين المسيحي أبدا... إنهم يساعدوننا في ديننا ويحترمون إلهنا وقديسنا. ويرى المستشرق أرنولد سير توماس أن الإسلام لم ينتشر بالسيف وإنما انتشر سلما بفضل الفقهاء والقضاة والحجاج والتجار، وإن الشعوب رحبت بالمسلمين لإنقاذهم من الحكومات الظالمة التي اضطهدتهم. *رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر