في الأدب الفرنسي الحديث، يصفه البعض بأنه "صاحب النعلين الهوائيين" لكثرة انتقالاته ورحلاته بين القارات، بينما يطلق عليه بعضهم صفة "صاحب النعلين المنطلقين إلى الأمام دائما وأبدا" لأنه لا يبرح في مكان واحد، إن في مضمار التعبير الأدبي، وإن في مجال ارتحالاته الجغرافية. ذلكم هو الشاعر آرثر رامبو، 1854-1891. قد يكون رامبو أكبر من أثر في الشعراء الذين جاؤوا بعده، والسبب هو أنه جاء بالشيء الجديد، ثم إنه توقف عن نظم الشعر أو قوله وهو لا يكاد يتجاوز العشرين، ووضع حدا فاصلا بينه وبين تاريخه الأدبي الذي لم يستمر إلا لبضعة أعوام. تراءت لي صورته حين وقفت قبالة مستشفى "لاكونسبيون" في مدينة مرسيليا. وهو المستشفى الذي بترت فيه ساقه بعد أن جيء به محمولا على نقالة إسعاف من أرض الحبشة حيث عمل في التجارة وفي تهريب السلاح. ما زالت صورته تتراءى دوني بعد أن وقعت أنظاري عليها في لوحة زيتية أنجزها أحد الفنانين التشكيليين حين زاره في المستشفى. عينان ضيقتان تكشفان عن آلامه بعد أن كانتا زرقاوين صافيتين أيام الصبا الأول، وجلسة قلقة على السرير وهو يتحدث مع شقيقته الصغرى التي جاءته زائرة من شمال فرنسا موفدة من قبل والدتها. أعتقد أن أهل الأدب في فرنسا أصابوا حين أطلقوا عليه ذينك الوصفين. فهو الفتى الهارب دائما وأبدا من نفسه ومن محيطه ومن أوربا كلها. غير أنني أحب أن أضيف إليه وصفا آخر وهو "الفتى الذي هرب من الوجود كله" بعد أن عب من الحياة عبا في باريس، ثم في لندن، وبلجيكا رفقة صاحبه الشاعر المنبوذ "بول فرلين". وبالفعل، فقد فر آرثر رامبو من نفسه حين تسبب ذات يوم في مقتل أحد عمال المناجم في جزيرة قبرص، حيث عمل لبعض الوقت. ثم انطلق صوب عدن، جنوبي الجزيرة العربية واشتغل لدى شركة تبيع القهوة، وانتقل منها إلى الحبشة وأريتيريا حيث تحول إلى مهرب سلاح دون أن يقع في قبضة العدالة. لكأني به قد ورث فكرة الهروب عن والده، ذلك الذي انتمى إلى جيش الاستعمار الفرنسي وشارك في حملاته ضد الجزائريين لكي يفر من وطأة العدالة التي راحت تطارده بسبب ما ارتكبه من أفعال تسيء إلى المجتمع الفرنسي. انفجر نبع الشعر في أعماق آرثر رامبو، وهو في المدرسة الابتدائية بعد، وتفوق على أقرانه من التلاميذ، بل، واستطاع أن يقف الند للند مع أساتذته في مجال التعبير الشعري. ولعل ما يلفت النظر في صباه الأول هو أنه نظم قصيدة باللغة اللاتينية عن "يوغرطة"، وهي قصيدة نالت إعجاب ممتحنيه. ثم نزل عند رغباته الجامحة في التعبير الشعري، فاتصل بالشاعر بول فرلين، ومضى إلى باريس لكي يعاشره بها في جو من الصعلكة والتفسخ الأخلاقي. ونظم بهذه المدينة أروع ما جادت به قريحة شاعر من شعراء فرنسا، ثم كتب ديوانيه النثريين الشهيرين "موسم في الجحيم" و«إشرافات". وقفت عن بعد أتأمل المستشفى القديم، ذلك الذي أمضى فيه رامبو بضعة أيام قبل أن تنقله أخته إلى مدينة "شارلفيل"، شمالي فرنسا لكي يموت بها. وجدتني أعقد المقارنة بينه وبين بعض الشعراء الذين لاقوا مصارعهم وهم في طور الشباب الأول، من أمثال طرفة بن العبد البكري، وألكسندر بوشكلين وإيديث ستويل وغيرهم. وقلت عندئذ بيني وبين نفسي: ألا ما أجهلنا بالشعر وبالشعراء! نمضي إلى النبع لنستقي منه دون أن نعرف كيف يتشق هذا النبع من الصخر ويسيل ليروي الإنسان والحيوان والطبيعة. ولذلك تبدو لنا حياة الشعراء ملفوفة في جو من الغموض. بل إننا لا ندري كيف نتصرف حيال أولئك الذين تضطرب بهم الحياة شرقا وغربا، هذا إن نحن لم نلق باللائمة عليهم في الكثير من الأحيان.