لكأني بأمير الشعراء، أحمد شوقي (1868-1932) قد قرأ بإمعان وتفهم عميق كتاب ”حياة النحل” للشاعر والمسرحي والباحث البلجيكي، موريس ماترلنك، (1862-1949)، الحائز على جائزة نوبل للآداب في عام 1911. كان شوقي، بالإضافة إلى ثقافته العربية الإسلامية، وشاعريته المجنحة المهفهفة، يمتلك ناصية اللغة الفرنسية، وصاحب اطلاع كبير على الأدب الذي كتب بهذه اللغة. ولذلك، فأنا أجد أثرا لماترلينك في قصيدته الشهيرة ” مملكة النحل ” التي رصد فيها حياة النحل، أو على الأصح، ملكة النحل، وهي تقوم على شؤون مملكتها من خدم وحشم إلى أن تمتلىء ” الجبح”، جمع ”جبحة” بالعسل الصافي الذي يفيد الإنسان في هذه الحياة الدنيا. كان الشاعر والمربي الراحل، الحفناوي هالي، قد حفظنا هذه القصيدة الطريفة ونحن في مدرسة التهذيب العربية عام 1959، ومضيت كغيري من التلاميذ أرددها منذ ذلك الحين، إلى أن شاءت لي ظروف المطالعة أن أقرأ كتاب ”حياة النحل” لموريس ماترلينك، ورحت أعقد المقارنة بين ما جاء في هذا الكتاب وقصيدة أحمد شوقي التي يقول في مطلعها: مملكة مدبرة بامرأة مؤمرة تحمل في العمال والصناع عبء السيطرة! والحقيقة هي، أن الشاعر شوقي ما كان ليلتفت إلى مثل هذا الموضوع لولا اهتمامه بما يجد من أفكار في الثقافات الأوربية، ذلك لأنه كان مهموما في المقام الأول بمواضيع الساعة، وبما يحفل به التراث العربي الإسلامي، والديني منه بوجه أخص. ولست أعرف في الأدب العالمي، أو فيما طالعته في هذا الشأن، من نظم شعرا في مثل دقة شوقي عن النحل. طالعت كتابات نثرية عديدة في هذا الشأن، لكن شاعرية أحمد شوقي جعلته أشبه ما يكون بالشاعر الفرنسي” فيكتور هيغو ”، ذلك الذي شق لنفسه طريقا متميزة في معالجة العديد من المواضيع الإنسانية والتاريخية، وعلى رأسها حياة الأنبياء والرسل، وما اضطربت به الحضارات الإنسانية كلها، وعلى الأخص منها، حضارة الإسلام والمسلمين أجمعين. ومن يقرأ ديوانه الضخم ”أسطورة القرون” يطلع حتما على هذا الجانب في اهتماماته الفكرية. ولا شك في أن الشاعر أحمد شوقي تأثر بما قرأه من أدب مسرحي وضعه كبار أدباء فرنسا، وعلى رأسهم ”راسين ” و« كورناي” وأديب إنجلترا الكبير ” ويليام شكسبير” و«موريس ماترلينك ” نفسه.. إنني أراه وقد حذا حذو أولئك الفطاحل حين عالج مواضيعه المسرحية التراجيدية التي كان من بينها ”مصرع كليوباترا” و ”قمبيز” و« مجنون ليلى”. حقا، كان الشاعر أحمد شوقي أشبه بنحلة تنتقل من زهرة إلى أخرى لكي ترتشف رحيقها، وهو قد رشف الرحيق من كبريات الأعمال الأدبية العربية والفرنسية والأوربية، وعرف كيف يفرزها عسلا مصفى في قصائده العصماء، وفي مآسيه المسرحية، وفي بعض كتاباته النثرية. وذلك ما نفتقر إليه اليوم في الأدب الذي يكتب باللغة العربية. فعلا، إننا أقرب ما نكون اليوم مما يجد من إبداع فكري وأدبي عبر اللغات العالمية، لكننا في مقابل ذلك، أبعد ما نكون عنها، وذلك شيء يؤسف له.