تعيش فرنسا وبقية الدول الأوروبية، تحت وقع الصدمة القوية للاعتداء الذي استهدف الأسبوعية الفرنسية الساخرة ”شارلي ايبدو” الأربعاء الماضي، في مشهد يعيد إلى الأذهان هجمات 11 سبتمبر 2001 بالولاياتالمتحدةالأمريكية، التي هزّت العالم بأكمله وفي وقت ما كان الجميع يتصور أن تصل آفة الإرهاب إلى اعتى قوة كانت تعتبر نفسها بمنأى عنها. وبعد ثلاثة أيام من المطاردة، على إثر الاعتداء الذي استهدف الأسبوعية الفرنسية الساخرة ”شارلي إيبدو”، تمكنت قوات الأمن الفرنسية من قتل المشتبه في تنفيذهما للهجوم الأخوين كواشي، خلال مداهمة قوات الأمن لمطبعة في شمال شرق باريس، حيث كانا منذ صباح أمس، يحتجزان رهينة تم تحريره دون أن يصاب بأذى. ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية، عن نفس المصادر قولها أن العملية تمت بالتزامن مع مهاجمة قوات الأمن متجرا بباريس، لإنهاء عملية احتجاز رهائن ثانية، حيث تم تحرير الكثير منهم وقتل محتجزهم المشتبه فيه أحمدي كوليبالي، وسجل مقتل أربعة من الرهائن أيضا. وكان مسلسل الرعب تواصل طيلة نهار أمس، ففي الوقت الذي باشرت السلطات الأمنية مفاوضات مع الشقيقين شريف وسعيد كواشي، المشتبه فيهما في الهجوم على مقر الصحيفة، ذكرت مصادر أمنية أن تبادلا لإطلاق النار وقع أمس، في منطقة ”بورت دو فانسان” في الدائرة الثانية عشرة شرق باريس، مضيفة أن شخصا قد أطلق النار في شرق باريس وقام باحتجاز خمس رهائن على الأقل داخل متجر لبيع منتجات غذائية خاصة باليهود، ويرجّح بقوة أن يكون مرتكب اعتداء ”مونتروج”، الذي أسفر عن مقتل شرطية وإصابة آخر. وقد عكست الهبة التضامنية الدولية مع فرنسا إثر هذا الاعتداء المخاوف التي أصبحت تعيشها العديد من الدول الغربية التي لم تكن تتصور أن الخطر الإرهابي النائم بها سرعان ما يستفيق مرة أخرى، ويضرب بقوة وهي التي تعمل ليل نهار على تعزيز إجراءاتها الأمنية التي لا تتعدى حدود شواطئ البحر الأبيض المتوسط. عقد قمّة أوروبية حول مكافحة الإرهاب يوم 12 فيفري لكن يبدو أن الدول الأوروبية قد أدركت ضرورة مراجعة مخططاتها، وعدم البقاء مكتوفة الأيدي إزاء آفة يبدو أنها لن ترحم أي دولة أوروبية وذلك بإعلان رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، أمس، أن القمة الأوروبية المرتقبة في 12 فيفري المقبل في بروكسل، ستخصص لمكافحة الإرهاب وبحث كيفية مواجهة الاتحاد الأوروبي تحديات مكافحة الظاهرة التي ضربت أوروبا. ورغم أن العواصم الأوروبية شهدت خلال ال20 عاما الماضية 9 اعتداءات أبرزها اعتداء 11 مارس 2004 باسبانيا، من خلال انفجار نحو عشر قنابل في أربعة قطارات في مدريد وضواحيها، لتليها يوم 7 جويلية 2005، أربعة اعتداءات منسقة ببريطانيا استهدفت في ساعة الذروة ثلاث محطات مترو وحافلة في لندن، إلا أن كل ذلك يبرز عدم اقتناع القيادات الأوروبية بعد بأهمية تبنّي الرؤية الشاملة في صد خطر الإرهاب الذي اتخذ هذه المرة صبغة نوعية جديدة أكثر تطورا من حيث العتاد المادي و البشري، بعد التحاق العديد من مواطني هذه الدول بالتنظيمات الإرهابية. وكانت الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تعيش حالة استنفار قصوى عقب الاعتداء، من أولى الدول التي قدمت تعازيها لباريس، وفضّل الرئيس اوباما، التنقل شخصيا إلى سفارة فرنسا ببلاده للتوقيع على سجل التعازي وكتابة عبارة ”تحيا فرنسا”. من جهته ندد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، بالهجوم ”البغيض”، مؤكدا في كلمة له بمجلس العموم البريطاني، أن ”لندن تقف إلى جانب فرنسا في الحرب على الإرهاب وفي الدفاع عن حرية الصحافة” .وقالت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل، في بيان رسمي ”هذا الهجوم المقيت ليس فقط هجوما على أرواح المواطنين الفرنسيين وأمنهم. إنه هجوم على حرية التعبير والصحافة، وهذا الهجوم غير مبرر بأي صورة من الصور”، في حين ندد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ورئيس المفوضية الأوروبية جان-كلود يونكر، بالهجوم ووصفاه بأنه ”همجي”.وأبدى بان كي مون ”غضبه من الجريمة المريعة التي لا مبرر لها وهدفها إحداث انقسام”، بينما قال يونكر، في بيان أصدره الاتحاد الأوروبي ”هذا عمل غير مقبول على الإطلاق، عمل همجي يتحدانا كبشر وأوروبيين”. ولم تتخلّف الدول العربية عن تقديم التعازي والتنديد بالهجوم، كما كان الحال مع الجزائر التي أدانت ب"شدة” الاعتداء الذي استهدف مقر الأسبوعية الفرنسية، معربة عن تضامنها مع الشعب والحكومة الفرنسيين. كما ضمت كل من مصر والسعودية والأردن وسوريا أصواتها إلى الجزائر حيث استنكرت الهجوم ”الإرهابي”، مؤكدة وقوفها إلى جانب الحكومة الفرنسية في ”مواجهة كل أشكال الإرهاب” الذي يستلزم ”تعاونا دوليا” لدحره. وبدوره أدان الأمين العام لجامعة الدول العربية، نبيل العربي ”بشدة الهجوم الإرهابي”، مقدما تعازيه إلى عائلات الضحايا والشعب الفرنسي ”على إثر هذا المصاب الأليم”.ومن باب تفادي إفرازات هذا الاعتداء الذي قد ينعكس لا محالة على الجالية المسلمة بأوروبا، أدان الأزهر الشريف الهجوم واصفا إياه ب"الإجرامي”، في وقت حذّر أحد المسؤولين الدينيين من ”المسارعة إلى اتهام المسلمين بذلك قبل انتهاء التحقيقات”. وكان المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، قد استنكر بدوره الاعتداء، مؤكدا في بيانه أن ”هذا العمل الهمجي الخطير للغاية هو أيضا هجوم على الديمقراطية وحرية الصحافة”. هولاند يدعو إلى رفض المزايدات وقد دعا ممثلو الجالية المسلمة بفرنسا، التي تعد من أكبر الجاليات بهذا البلد أئمة المساجد عبر التراب الفرنسي إلى التنديد بالعمل الإجرامي في خطبة الجمعة، في الوقت الذي حرص الرئيس الفرنسي، على تهدئة الأوضاع وإطفاء الروح الانتقامية تجاه الجالية المسلمة بالدعوة إلى الوحدة بين الفرنسيين، ورفض المزايدات والرسومات الكاريكاتورية المثبطة، بالقول إن فرنسا ”تشهد محنة بكل معنى الكلمة”، كما دعا قوات الأمن إلى إظهار في كل محافظاتفرنسا أن ”الدولة حاضرة لتؤدى دورها لنشر كل الموارد لدرء المخاطر”، وطمأنة المواطنين أنهم يعيشون في ”دولة تحترم القانون” من خلال خطة ”فيجي بيرات” التي تم رفعها لحالة تأهب قصوى. وكان الرئيس الفرنسي، قد عقد في وقت سابق ثلاثة اجتماعات أزمة بقصر الإليزي لبحث أخر تطورات البحث عن مرتكبي الهجوم على الصحيفة، حيث بحث الإجراءات الأمنية التي تم اتخاذها لتأمين البلاد من خطر وقوع هجمات إرهابية أخرى. أما وزيره الأول مانويل فالس، فقد أكد أن بلاده كانت تقود حربا على الإرهاب وليس على أية ديانة. وذلك ردا على عمليات إطلاق نار استهدفت أحد المساجد. وبرز في خطاب الرئيس الفرنسي، رغبة في تنسيق الجهود مع الدول الأخرى للتصدي للمد الإرهابي، وذلك بالقول إن الوزير الأول ”سيتعاون مع دول أخرى وينسّق معها لتبادل المعلومات”، مؤكدا أن ”رد فرنسا يجب أن يكون على المستوى الدولي والأوروبي”. وإذا كان الاعتداء على الصحيفة الذي يعد الأعنف من نوعه بفرنسا منذ 40 عاما، بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس في مجتمع يعرف بعض مظاهر العنصرية، فإن باريس ستعمل بلا شك على مراجعة مواقفها إزاء مفهوم محاربة الإرهاب، ولعل ذلك ما جعل الرئيس هولاند، يبرر تدخل بلاده في مالي بأنه من أجل مساعدة ”هذا البلد على استعادة وحدته الوطنية، ولتحمي نفسها من المخاطر القادمة من الخارج التي تضاف إلى المخاطر الداخلية”. لكن يبدو أن مخاطر بهذا الحجم لم تكن في الحسبان، من منطلق أن الكثير ممن يعتنقون الفكر المتشدد ليسوا من ذوي أصول عربية أو إسلامية، ويقع عدد كبير منهم فريسة للتطرف. علما أن دراسات تشير إلى أن عدد المرشحين الفرنسيين للذهاب إلى الجهاد في سوريا يقدر ب390، حيث أبدى 200 مرشح ميلهم للالتحاق بالمشرق، في حين عاد 180 منهم إلى بلدهم.