اكتسحت ظاهرة التسول الأحياء العاصمية والمدن الكبرى في السنوات الأخيرة بقوة إلى درجة أصبح التفريق فيها صعبا بين الفقير المحتاج ومتقمص دوره... أشخاص كثر من مختلف الأعمار يمدون أيديهم لطلب الصدقة على قارعة الطرق وبين الأحياء رغم كون هذا العمل مذموما ومكروها في الإسلام. والمؤسف في الأمر أن البعض أصبحوا يجدون فيه ضالتهم في الربح السريع، من خلال اللعب على مشاعر الناس ومغازلة إنسانيتهم. عرفت العاصمة وولايات الوطن خلال الأشهر الأخيرة، ضغطا صنعه المتسولون من أفارقة وسوريين وجزائريين، فبعدما عملت الجزائر على ترحيل عدد كبير من النيجريين إلى بلادهم، اختار آخرون البقاء هنا نظرا للمعاملة الرحيمة التي لقوها من أبناء الجزائر، في الوقت الذي اجتهد متسولون ومحتالون في العزف على أوتار القلوب الرحيمة لاستنزاف جيوب أبناء الوطن، خاصة أنهم أوجدوا لأنفسهم أماكن لا يمكن بأي حال الابتعاد عنها أو السماح للغير بالجلوس بها. أحياء عاصمية مِلك للمتسولين... كانت وجهتنا الأولى قلب العاصمة، كان يومها الطقس جميلا، الطرقات تعج بالناس، وكل منشغل بقضاء حاجاته، هناك بساحة "أول ماي" وأنت مار بأرصفتها يلفت انتباهك الكم الهائل من المتسولين، أول الرصيف تتصدره امرأة خمسينية لا تبصر جالسة على كرسي تمد يدها للمارة علّهم يتكرمون عليها ببعض الدنانير. على بضع خطوات منها شاب آخر في العشرينات من العمر، معاق، جالس على كرسيه المتحرك، يتوسل الناس لإعطائه نقودا بحجة شراء الأدوية، كان يحمل بيده وصفات طبية وملفا لتبرير تسوّله، وكان تقريبا كل من يمر بجانبه يعطيه نصيبا. اختلفت آراء المواطنين حول الظاهرة وطرق التسول؛ حيث يرون أنها انتهازية واحتيال غير مباشر، وآخرون تركوا هامشا من حسن الظن؛ إذ أشار السيد "عمار .ر" في حديثه إلينا، إلى أن الانتهازيين قد أغلقوا المنافذ على المحتاجين، يقول: "ساحة أول ماي أصبحت معروفة بكثرة المتسولين من مرضى ومعاقين وكذا أشخاص عاديين، يطلبون الحسنة من الناس، وقد زاد بها عدد الانتهازيين؛ مما يجعلك ترفض قطعا إعطاء مالك للغشاشين". أما الشاب "يزيد .م" فيقول: "سئمنا من هذه الممارسات السلبية؛ كثيرون هم المتسولون الذين يتمتعون بكامل قواهم العقلية والصحية ومع هذا لا يسعون للكسب الحلال من خلال العمل؛ فهو عيب كبير أن نمد اليد للتسول!". محطة تافورة في العادة مقصد للمتسولين، لكنا يومها لم نجد سوى متسول واحد، وهو شيخ كبير في الستينات من العمر، بلحيته البيضاء متكئ على عكازته، لا تبدو عليه مظاهر الفقر؛ كون ثيابه نظيفة ومحترمة إلى درجة أنك لا تنتبه إلى أنه محتاج. تحدثنا إليه، إجابته صدمتنا حيث قال إن لديه 6 أولاد تخلوا عنه ورموا به إلى الشارع، فوجد فيه مأوى له! تساءلنا مع أنفسنا كيف يمكن أن تجتمع النظافة والشارع معا؟ وهو يؤكد أن بيته الشارع. متسولون أغنياء... ساحة "ميسونيي" هي الأخرى تعج بالناس. لفتت انتباهنا امرأة خمسينية تفترش الأرض وبجانبها 3 أطفال صغار لا يبدو عليهم الفقر تماما. حاولنا التقرب إليها والحديث معها، لكن شابا يعمل بأحد المحلات بقربها حذّرنا قائلا: "لا داعي للحديث إليها؛ إنها كثيرة السب والشتم، خطيرة جدا وتخلق المشاكل مع الجميع". هنا تدخلت امرأة قائلة إنها تعرف قصة هذه المتسولة؛ فهي تملك بيتا من 3 طوابق، والأطفال الذين معها ليسوا أولادها بل تستعيرهم من بعض العائلات التي تتقاسم معهم ما تجنيه في اليوم. والأغرب في الأمر أن هؤلاء الأطفال بقوا في نفس العمر لمدة أزيد من 10 سنوات، فالكل قد كشف حيلة هذه المرأة، حسبما أشار إليه محدثونا من المكان. في جولتنا هذه تقربنا من بعض المواطنين الذين أعطونا رأيهم في الموضوع وإن كانوا قد صادفوا في حياتهم قصصا لأغنياء يمتهنون التسول كمصدر رزق؛ حيث قالت لنا "أميرة. خ« 21 سنة، إن التسول في وقتنا هذا نوعان؛ هناك من هو بأمسّ الحاجة إلى المال، فتجده يطلب المساعدة، وهناك أغنياء يمتهنونه للأسف. أما "فريد" طالب جامعي، فيرى أن "أغلب المتسولين يملكون سيارات فاخرة ومنازل فخمة جنوها من "مداخيل" التسول، وإلا ما تفسير عملية نزول هؤلاء المتسولين من سيارات فخمة قاصدين الأحياء الشعبية أو الراقية ليجلسوا فيها طوال النهار لطلب الصدقة، وفي الليل تعود ذات السيارة حتى تردهم إلى البيت؟!". وأضاف محدثنا قائلا: "إن أغلب الفقراء والمحتاجين فعلا لا يمدون أيديهم للناس؛ رزقهم على الله، وكما يقال: الكفاف والعفاف". ومما لفت انتباهنا في جولتنا هذه أن المتسولين لا يقبلون بأي شيء سوى النقود؛ فهم يشترطونها، فإذا قُدم لهم الأكل أو اللباس لا يأخذونه بل يكشرون في وجه الشخص، ناهيك عن بعض التصرفات اللاأخلاقية التي يمارسها بعضهم، كالشتم وحتى العنف في حالة ما رفض الشخص إعطاءهم ما طلبوه! السوريون الهاربون من الحرب وويلاتها أيضا أصبحوا رقما يضاف في تعداد المتسولين، منهم عائلة متكونة من 5 أفراد؛ 3 نساء وطفلان صغيران، أخذت من الرصيف مأوى لها، تمد يدها للمارة. وما لاحظناه أن الناس فعلا يعطونهم المال؛ لأنهم، في نظرهم، يستحقونه بسبب حالتهم المعيشية الصعبة، ووجوههم الشاحبة التي تعبّر عن البؤس. تحدثنا إليهم، فأخبرونا بأنهم يتخبطون في ظروف قاسية وأن الجزائريين كرماء ويحترمونهم، فقط هناك بعض المضايقات من بعض الشباب الذين يتحرشون بهم أحيانا، وحين سألناهم لماذا لا يشتغلون بدل مد يدهم للصدقة، أخبرتنا محدثتنا بأنه لا أحد يقبل بتشغيلهم، فلم يجدوا سوى الشارع مأوى لهم ومكانا يسترزقون فيه رغم أن الجزائر قد وضعت هذه العائلات بمخيم سيدي فرج وتكفلت بهم!