يحتضن المتحف العمومي الوطني للزخرفة والمنمنمات وفن الخط بقصر "مصطفى باشا" في القصبة السفلى معرضا خاصا بفن الخط الحديث، من توقيع الطيب العيدي، تستمر فعالياته إلى غاية 18 ماي الجاري، ويخرج المعرض عن الصورة الدارجة التي طبعت الخط العربي، إذ يمتدّ بالحرف إلى عوالم فنية وجمالية وفلسفية لا حدود لها. ينظّم المعرض في إطار فعاليات شهر التراث الذي يحمل شعار "التراث والإقليم"، وأعطى الفنان للوحاته المنتشرة عبر جناحين اسم "حروفيات"، إذ أنّ الحرف العربي كان مادته الفنية الأولية التي يبتكر من خلالها مضمون اللوحة، فله قدرة عجيبة على الإبداع، لذلك نراه لا يتكرّر في لوحاته التي تجاوزت الستين فلكلّ لوحة شخصيتها وكيانها المستقل عن اللوحة الأخت سواء في الشكل أو المضمون أو الألوان والأبعاد والمساحات وغيرها . من يتمعّن في هذه اللوحات يدرك سريعا أنّ الفنان يولي اهتماما واضحا للخط المغربي المتكرّر دوما، ولعلّ ذلك راجع إلى أيام الكتاتيب بمنطقة الأغواط التي كان الطفل الطيب يتردّد عليها ومعه اللوحة والقلم، حيث تربطه به علاقة خاصة منذ الصغر بكتاتيب القرآن واللوح والقلم والدواة، كما يستعمل الفنان أيضا في تشكيلاته الخطية تقنية الترميل، وأحيانا يختار الفنان في لوحته حرفا أو حرفين من مقولة أو آية كتبت في الخلفية ليسلّط عليها الضوء ويبرزها بالألوان الفاقعة وبشكل أكبر، يتحوّل الحرف لدى العيدي إلى كائن طائر، يطير ويحلق، ثم يعود ليحطّ على أغصان الحروف المعبأة بعبق وثمار العبارات محاولا، إضافة ما تيسّر له من رموز ومعان وأضواء وغيرها كي تكتمل المعاني وترتقي إلى مصاف النصوص المقدّسة. لهذا الفنان الفضل في توظيف الحضور العربي الأسمر كلون الحناء والصمغ، لذلك يبدو محيط اللوحة وبكلّ ما فيها من حروف بيئة عربية خالصة لا غبار عليها، واستنبط الفنان بعضا من لوحاته من خلال نصوص هي من أمّهات التراث العربي منها الشعر والنصوص الفلسفية الصوفية لابن العربي "منها الحب ديني وإيماني" وكذا ميراث أبي مدين شعيب والأمير عبد القادر الجزائري وغيرها، وكانت تبدو تلك النصوص كأنّها منقولة من أحد المتاحف أو من خزائن المخطوطات لما فيها من أصالة ورقي تشدّ بمعانيها الإنسان وتجعله رغما عنه يقرأها وربما يعيد القراءة لمرات ومرات إلى أن يبلغ بها عنان السماء خاصة وأنّ المكان مساعد على ذلك بهدوئه وعمرانه ونباتاته وأسماكه "السلمونية" الفاتنة وكأنّها جوارِِ تزيّن قصر "مصطفى باشا". يعكس المعرض قدسية الحرف وكيف أنّه مترجم الكلام والشعر والفلسفة يلتزم بأدائه بعيدا عن الثرثرة ليخلق نوعا من الألفة والثنائية مع الفن لتحدث تشاكيل راقية مجسّدة للسهل الممتنع، وفي أحيان أخرى ينجذب المشاهد للحرف أكثر من الكلمة والمعنى ليبدو هو السيّد بتجلّياته وحركاته ومواطن جماله وتموقعاته التي تجعله يتفوّق على اللغة والكلام فيكفي حرف لتكتمل الصورة واللوحة وحتى المعنى فالحرف لا يعني البتة أنّ المعنى منقوص. تبرز عبقرية الفنان أيضا في ملء الفراغات خاصة بالتلوين، كما يتفنّن في صياغة الحروف المنتشرة هنا وهناك لكن بهدف لا علاقة له بالعبث، فمثلا تبدو الحروف أحيانا مذهّبة مائلة تشبه الزرع الذي حان قطافه، وتتجلى في لوحة أخرى البسملة ضمن فضاء ربّانيّ نقيّ وقدسي يشعر العين بزرقته بالهدوء والطمأنينة، أمّا لوحة لفظ الجلالة فحدّث ولا حرج، حيث اكتملت فيها معاني الجمال والروعة فكتابة اسم "الله" لا مثيل لها يضيئها سراج قريب وتحتها كتبت الآية "الله نور السماوات والأرض". لا تنتهي اللوحات عبر الجناحين متضمّنة كلّ الصور التي يمكن للإبداع أن يلفظها من معالم هندسية أصيلة ومن منمنمات وأشكال مزهّرة ومن حروف تشبه أعشاب البحر المتموّجة ومن كواكب سابحة في مجرات شتى دون أن ننسى الحضور القوي للمداد المتمثّل في اللون الأسمر المحمر الشبيه بالحناء . استحضر الفنان أيضا في لوحاته الأسلوب التجريدي لخدمة الحرف الذي كتبه بأشكال حديثة مستعينا أيضا بالألوان المائية والزيتية وبقدرة الريشة في صياغة الحرف العربي الذي يحمل مقومات الفن والجمال بطبيعته. للتذكير، الفنان التشكيلي والخطّاط الطيب العيدي من مواليد سنة 1971 بآفلو ولاية الأغواط، خريج المعهد التكنولوجي للتربية سنة 1992، اشتغل أستاذا للتربية الفنية إلى غاية 1998 لينقطع بعدها ويتفرّغ للنشاط في ورشته الخاصة بدار الثقافة "عبد الله بن كريو" بولاية الأغواط، بدأ ممارسة الفن في سن مبكرة، ثم صقل موهبته أكاديميا. للفنان حضور جزائري وعربي قوي وحصد العديد من الجوائز منها الجائزة الدولية في مسابقة دبي الثقافية للإبداع دورة 2013، كما تأهّل للمرحلة النهائية من المسابقة الدولية لفن الخط بمكة المكرمة، وفي مسابقة البردة الدورة التاسعة وفي العديد من المواعيد الدولية الخاصة بفن الخط، كما شارك في أسابيع ثقافية جزائرية في الخارج وبمعارض جماعية منها معرض بغرناطة في إسبانيا ونال عدة شهادات تقدير دولية. الفنان عضو في لجنة تحكيم الصالون الوطني لصناعة التحف من الرمل الطبيعي بالأغواط وفي عدّة لجان أخرى، كما نشّط العديد من الورشات التكوينية في فن الرسم والحروفية في العديد من مناطق الوطن، علما أنّه باحث في الترميل والحروفية وعضو في لجنة تحكيم الأيام الوطنية الخامسة للخط العربي ببسكرة وله كتاب قيّم بعنوان "عطش" (لوحاتي الحروفية مع مقتطفات من شعر الأمير عبد القادر) .