تسرد "ملحمة قسنطينة" قصة مدينة الصخر العتيق منذ زمن ثمود وعاد، في قالب ملحمي فانتازي بديع، تجلى من خلال أداء يمجّد فيه تاريخ ورموز قسنطينة، في عمل إبداعي متميز بنص بليغ وموسيقى متقنة وأزياء جميلة، كسبت بحق رهان الجودة، جمعها المخرج المسرحي فوزي بن إبراهيم في لوحات تمثيلية، فأثمرت عرضا راقيا. عُرضت "ملحمة قسنطينة" سهرة أول أمس بالمسرح الأثري الكازيف بسيدي فرج، بمناسبة الذكرى ال 53 لعيدي الاستقلال والشباب، وهو عمل من إنتاج الديوان الوطني للثقافة والإعلام، وسبق أن تم عرضه في افتتاحية تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015 في أفريل الماضي، وارتأت ولاية الجزائر أن تحتفل بعيد الاستقلال بهذا العرض الملحمي الذي يروي سيرة قسنطينة عبر محطات فنية، عكست القيمة التاريخية الكثيفة لهذه المدينة. قسنطينة بدت أيقونة كل المدن، ليس فقط لتاريخها الزاخر وإنما كذلك بأهلها الذين أضحوا فيما بعد أبطالا ورموزا حريّ بالجزائريين الاعتزاز بهم، وذكر مآثرهم وتمجيد مواقفهم البطولية، بداية من رجل الكهف الأول، مرورا بالفترة النوميدية والمرجعية الأمازيغية، فالاحتلال تلو الاحتلال، وصولا إلى آخر محتل في العصر الحديث فرنسا. صوّر المخرج، بالمقابل، الرجال الذين وقفوا في تلك الشدائد؛ سواء بقوّتهم الحربية أو حنكتهم في الحوار والتعامل؛ تختلف المواقف باختلاف الوضع. وتقدّم الملحمة تاريخا يعتز به كل جزائري، وتمكّن المخرج من إقحام أهم الفترات التاريخية لقسنطينة في أسلوب شعري غنائي، يعتمد على المجموعة الصوتية ولوحات كوريغرافية راقصة، جمّلتها الأزياء متقنة الصنع، لينسج بذلك استعراضا ملفتا شكلا ومضمونا. ووقفت الملحمة عند النقاط المضيئة من ماضي الجزائر قبل التاريخ، ذلك لتكريس الشعور بالعزة والانتماء. وعُزّز العمل بمشاهد فيديو وصور من العهد النوميدي، ثم الروماني، ثم العهد الوندالي، ثم فترة البيزنطيين، حيث تتدخل شخصيات حقيقية في رسم تلك الحقب. ولعل من بين أهم اللوحات التي تعاطف معها الجمهور وتفاعل بقوة، لوحة الكاهنة التي ضحت من أجل نوميديا، في مشهد ملحمي تقشعر له الأبدان؛ إنه حب الوطن بالفطرة، الساري في دم كل جزائري؛ إنه حب الوطن الذي يأتي قبل أن يكون من الإيمان. وعرّجت الملحمة على ما شهدته قسنطينة أيام الفتح الإسلامي، ثم توالت عروض الصور في عهد الأغالبة والعبيديين والفاطميين وفي فترات الموحدين والحفصيين، حين كانت الجزائر أم الحواضر ومركز إشعاع علمي وفكري وثقافي واقتصادي، ثم يصل العمل إلى أيام العهد العثماني وما اضطلع به بايات الجزائروقسنطينة من إنجازات خالدة. ثم تعرض الحقبة الاستعمارية بدءا من المقاومات الشعبية إلى غاية اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954، وما تلاه من بطولات وتضحيات غالية، كُللت بنيل السيادة وطرد المحتل الفرنسي الغاشم. وتم تصوير مشهد فرحة الاستقلال في أبهر الصور وأحلاها. يُذكر أن الاحتفالية تمت بحضور عدد من أعضاء الوزارة الأولى، يتقدمهم رمطان لعمامرة وزير الدولة وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي، وعزّ الدين ميهوبي وزير الثقافة، وعبد المالك بوضياف وزير الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات، ومحمد الغازي وزير العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي، وطاهر خاوة وزير العلاقات مع البرلمان، ووزير الداخلية نور الدين بدوي، وعائشة طباغو وزيرة منتدبة لدى وزارة السياحة مكلفة بالصناعة التقليدية، إلى جانب والي ولاية العاصمة عبد القادر زوخ، وأعضاء من السلك الدبلوماسي المعتمد في الجزائر.