لقد خططت إدارة الرئيس الأمريكي بوش المحتضر سياسيا، لاحتلال العراق لما يقارب عقدا من الزمن، فكانت النتيجة صداما مريرا دارت وتدور رحاه في العراق، فيما يعتبر مواجهة بين الأمتين العربية والأمريكية والذي كان من نتائجه الوخيمة حصد أرواح الآلاف من الأبرياء والضحايا من الجبهتين، علل بوش آنذاك هذا الصراع كثمن لتخليص الشعب العراقي من ما سماه ديكتاتورية الرئيس المعدوم صدام حسين، ولم يكتف بذلك، بل ذهب إلى اتهامه بتهديد الأمن الدولي من خلال سعيه إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل! فكان من الضروري شحذ همة المجتمع الدولي لمواجهة الخطر العراقي على حد زعم الرئيس الأمريكي وحلفائه الغربيين. كان أن أقحمت الشعوب الأمريكية والأوروبية في مواجهة مفتوحة مع الشعوب العربية والإسلامية في حروب لا ناقة لها فيها ولا جمل، ذلك أن ما خطط له نسور البنتاغون ليلا هو ما يتنافى أساسا مع ما يطمح إليه شعبهم من امن واستقرار وسلام، لاسيما بعد مأساة 11 سبتمبر المروعة. هذه المعركة المفتوحة التي يبدو أن إسرائيل هي المستفيد الأول والأخير منها، وذلك بدعم من مافيا المال والسلاح والدين والمخدرات والجنس، التي شكلت خارطة العالم منذ ما يزيد عن قرنين من الزمن إلى اليوم، وعليه كان من الطبيعي جدا أن يتحالف نسور المؤسسة العسكرية في أمريكا وإسرائيل على أسلوب واحد: "تأديب المارقين" عن الرؤية العنصرية المتألهة واستئصال كل القواعد والرجال والمؤسسات الداعمة لهم، ومن ثمة تحقيق عقدتين استراتيجين؛ عقدة التفوق الصهيوني على الأمة العربية بأنظمتها وجيوشها وشعوبها، وتصفية مسائل شخصية عالقة بين رجلين ديكتاتوريين استوليا على السلطة على حساب أمن شعبيهما واستقرارهما، من وجهة نظر تحليل سوسيولوجي لظاهرة التسلط السياسي، فقد تخلص شارون من عقدته النفسية وهو المسؤول عن الآلة الحربية خلال احتلال العراق من خصمه صدام. غير أن الأمريكيين لم يجنوا من ذلك شيئا حسب تقديري، في ظل سقوط كل الافتراضات والادعاءات التي روجت لها الدعاية السياسية والإعلامية، من افتراض ارتباط سياسة صدام العدائية تجاه أمريكا وإسرائيل بتنظيم القاعدة الموهوم وضلوعه في أحداث 11 سبتمبر المأساوية، لكن ما جناه الأمريكيون كان عكس ذلك تماما، فلم يمر عام من الأعمال البربرية التي شاعت ببغداد، حتى ازدادت موجة الكراهية واللعنة وعمت كل أنحاء العالم، لاسيما أمريكا وما تبع ذلك من الهجمات الانتحارية والانتقام الأعمى ضد كل ما يمت برمزية إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوربا والعالم الذي وقع بين قبضة النسور الماكرة. تمر السنوات دواليك، وتغرق الشعوب الأمريكية والغربية في ديون ومآس لا أول لها ولا آخر، وهي تدفع يوميا بأس الحسابات السياسوية الضيقة لرجالاتهم، الذين تربوا على فكر عنصري يحمل عقدة التفوق "التفوق البشري" على شاكلة السوبرمان الذي حلم به أولادنا بفلسطين والعراق ولبنان ودارفور وتيمور، كي يخلصهم من حياة البؤس ويصنع جنة من الورود كما أرادها بوش ورجاله؟ هذا الفكر العنصري الذي عاد ليحتمي تحت غطاء الدين، ويذكرنا بالحملات الصليبية الحاقدة التي أدخلت عالم الإفرنج في مغامرة دامية في معركته مع العالم العربي والإسلامي، انتهت بانتصار المسلمين، واستعادتهم للأرض وللعرض، وحين ذاك لم يقل ملوك الإفرنج أن ذلك كان إرهابا أو انتحارا ومساسا بالديمقراطية، كما يفعله جبناء الإفرنج وأغبياؤهم، بل لم يوظفوا الدين لخدمة نزواتهم الشخصية والعائلية، وإنما كانت المعركة مفتوحة بين الحق والباطل والظلم والعدل والحرية والاستعباد والإيمان والكفر، بدليل أن المنهزمين من أهل الكفر والذين لم يدخلوا في دار الحرب، سرعان ما طلبوا حماية المسلمين ودخلوا في دين الله أفواجا، لما رأوا من سماحة المسلمين أثناء الحرب ووقت السلم. بيد أن صهاينة الأمس أدركوا اللعبة وتداركوا أخطاءهم وعلموا "واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا" على حد قول رب العزة، فأعادوا بناء حساباتهم على أساس منطق البنتاغون، وهو منطق لا صلة له بالقيم السياسية أو التاريخية أو الأخلاقية أو الإنسانية، أعده ميثاق القرن الأمريكي الجديد الذي تولى تنفيذه رجالات المخابرات والشركات النفطية العملاقة والمؤسسات العسكرية وأصحاب النفوذ المالي والإعلامي وأهل الدجل الديني واللاهوتي، وهي رسالة الرب لنصرة الأمة الأمريكية، كما لوح بذلك جورج بوش الابن عند حملاته الانتخابية وحملاته ضد العرب والمسلمين، وهو الأسلوب الذي استمر في توظيفه الحالمون بعرش البيت الأبيض الأمريكي مثل أوباما وماكين وغيرهم. وكان حريا بهؤلاء استحضار صورة "الخطر المزعوم" الذي يهدد المواطن الأمريكي ويهدد الأمن القومي الأمريكي، كما يحلو للمراهنين على فرس النصر والظفر بالأصوات مستقبلا تسميته، ولعل تزكية بوش لخليفته ماكين في خطابه خلال الحملة الانتخابية الجارية، عندما اعتبره المؤهل لقيادة الأمة الأمريكية في الفترات الصعبة، وهي فترات الوقوف في مواجهة الإرهاب...! ما يحاول بوش اللعب عليه من جديد لتخليص الشعب الأمريكي من "الإرهاب"، هو السيناريو الذي أراد أن يوهم به الرأي العام طيلة تواجده في الحكم، لكن تداعيات هذه السياسة الماكرة زادت من إغراق الشعب والمواطن الأمريكيين في الوحل، بل أن لعنة الإرهاب الذي صنعه بنفسه انقلبت عليه، وجرت معها لعنات أخرى. لقد رأينا كيف تبكي الأم الأمريكية مثلما تبكي الأم العراقية والأم الفلسطينية... على أبنائها الذين يسقطون في كل مرة في الحرب المفتوحة التي أرادها بوش وأعوانه، وهم يحملون أوزار الحرب الجائرة ضد الشعوب البريئة باسم إحلال الديمقراطية وباسم الحفاظ على الأمن القومي وباسم ردع المارقين من الإرهابيين عبر العالم، ولم يحدث شيء من هذا القبيل! وسنصل إلى مشارف الألفية المقبلة ويعود برزنسكي وثلة الخبراء المنظرين للسياسات الاستيطانية الأمريكية والصهيونية، ليقولوا لو كانوا منصفين مع أنفسهم "لقد أخطأنا عندما اعتقدنا أننا نخوض حربا أبدية ضد الإرهاب في العالم لكن الحقيقة أننا سوف لن ننتصر، ذلك أن الإرهاب الذي ظل يلعننا كل لحظة وحين، نحن الذين صنعناه". وإذا كان صراع أو صدام الحضارات على حد تعبير صموئيل هنتغتون، حتمية تاريخية وواقعية لا مفر منها، وتوظيف العامل الديني والعقائدي كأداة سياسية في الصراع بين العالمين العربي والغربي، فإن هذا التوظيف وأنماطه وزاويا تشكيله فكريا وإيديولوجيا وسياسويا، أصبح يشكل خطرا على مصير الشعوب والمعمورة ككل على حد تعبير دومينيك شوفالييه في معرض تحليليه لتداعيات أحداث 11 سبتمبر، ذلك أن الرؤية تختصر الصراع بين حضارتين إسلامية وغربية، في حين أن مصالح سياسية لإسلاميين معينين وراء الصراع، وليس من الموضوعي الظن بأن كل المسلمين ضد الغرب، والدليل مناهضة الكثير منهم للأطروحات والإيديولوجيات المتطرفة، كما أن الحديث عن هذا الصراع في بلد علماني متعدد الأصول والهويات كفرنسا، يؤكد خطورة نظرية هنتنغتون، وأي معنى يعطى لهذا الصراع في بلد يتعايش فيه المسلمون والكاثوليك واليهود تحت لواء "الجمهورية"، لقد فند التعايش الحضاري والتاريخي للأمم والشعوب العربية منها والغربية، ماضيا وحاضرا، مزاعم دعاة الشر والخراب والنزوات الضيقة والقلوب المملوءة بالأحقاد. إنني كمواطن عربي، لازلت احتفظ إلى حد الساعة بالصورة الرائعة للملايين من مختلف الجنسيات والديانات وهم يعيشون بأوطاننا العربية، فيخاطب الفرنسي العربي ويجتمع المواطن الأمريكي والإسباني واليهودي بالفلسطيني والسوري والسعودي، في العديد من الندوات الفكرية والعلمية والثقافية بعيدا عن الخطر الموهوم الذي تبشر به مافيا المال ومرتزقة الحرب والسلاح وأصحاب العقد النفسية والأنفس المريضة باسم حماية الشعوب وضمان أمنها، ونحن الشعوب أبرياء من ذلك براءة الذئب من دم يوسف.