* email * facebook * twitter * linkedin تثير تغريبة بني هلال من بلاد نجد إلى تونس، اهتمامات الباحثين في المأثورات والسير الشعبية، وتتعرض لجوانب إنسانية، نظرا لغناها الفني بشخصيات وأحداث تضفي على الأدب الشعبي لونا خاصا يمثل الحياة الاجتماعية والفكرية العربية. كما تتميز التغريبة الشعرية بطول أبياتها -التي تفوق المليون عن غيرها- من السير العربية، مثل سيرة الملك سيف بن ذي يزن وعنتر بن شداد والظاهر بيبرس والأميرة ذات الهمة وعلي الزيبق، وهي كلها تمجد البطولة والشجاعة والمثل العليا والقدرة على تجاوز الواقع نحو آفاق جديدة. ينتسب بنو هلال إلى هلال بن عامر، وهم قبيلة عربية هوازنية قيسية مُضرية عدنانية سكنت قبل هجرتها من الجزيرة العربية إلى الشام، ثم صعيد مصر، ومنه إلى شمال أفريقيا، بجوار أبناء عمومتها من القبائل القيسية، مثل "سُليم" و«هوازن" و«عامر"، بلاد الحجاز ونجد، حيث الأرض صحراوية جافة، تكتنفها حمم بركانية بازلتية سوداء، تقوم الحياة فيها على آبار قليلة مترامية وبعض الأمطار. الحلف القيسي عُرفت هذه القبائل بطبيعتها المحاربة وصراعاتها القبلية وهجراتها الطويلة وأحلافها، وألفت تلك القبائل النجدية جناحا مهما في الحلف الشمالى العدناني القيسي، في نزاعهم مع عرب الجنوب القحطانيين، واشتهرت كل قبيلة منها بأيامها وفرسانها وتراثها القبلي. انضوى بنو هلال في هذا النزاع في الحلف القيسي المكون من سُليم وعامر وهوازن في محاربة عرب الجنوب اليمنيين. ولم تكن تلك القبائل النجدية القيسية تشكل أحلافا لها معها تاريخ قبلي مشترك فحسب، بل كونت حاضنة قبلية مختلفة ومتمايزة عن غيرها، وكانت لهم لهجة دارجة يتفاهمون بها في حياتهم اليومية لم تتوفر لها مدونات، وإن كانت تظهر في قراءات القرآن الكريم إلى جانب الفصحى التي شكلت لغة أدبية. هجرة قيس الكبرى اشتهر الحلف القيسي في أيام العرب زمن الجاهلية بحروبه الطويلة مع عرب الجنوب، إلى جانب نزاعاتهم وحروبهم الكثيرة فيما بينهم، وكانوا وثنيين مخلصين لآلهتهم، مثل أصنام ذي الخلصة وخثعم وبجيلة. لما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام، عادته بعض القبائل الشمالية بشدة، رغم قرابتهم له، ومن دخل الإسلام في حياة النبي نكث عهده بعد ذلك، وانضم إلى حركة الردة التي فشت في جزيرة العرب، لكنهم هُزموا لاحقا وعادوا إلى الإسلام. بعد فتح مصر عام 641 للهجرة، شعر الأمويون الذين ينتمون أيضا إلى القبائل القيسية، بغلبة العنصر السبئي اليمني على الجيش العربي وجنوده الذين استقروا في الفسطاط، حيث كانت معظم القبائل التي تكون منها جيش الفتح قحطانية يمنية. اقترح متولّي خَراج مصر على الخليفة هشام بن عبد الملك استقدام قبائل قيسية لإحداث توازن داخل الجيش، وفي العام الهجري 109، بدأت هجرة قيس الكبرى إلى مصر، وظلوا ينتقلون إليها مع أحلافهم وأبناء عمومتهم. ثم جاء عهد الخليفة الفاطمي العزيز بالله الذي استقدم بعض القيسية باتجاه صعيد مصر والعدوة الشرقية، وكانت موجة هجرة القيسيين إلى مصر في عهده من أقوى الهجرات العربية التي سلكت ديار الشام، ثم استقرت في الإقليم الشرقي عبر الطريق الذي عرف كثيرا من الهجرات، وكانت تسكنه بطون منهم منذ العصر الأموي، لكنهم ما لبثوا أن أثاروا القلاقل وأغاروا على قرى الدلتا للنهب، وسرعان ما ضاق الخليفة بما سببوه من خراب، فطردهم إلى صعيد مصر. الهجرة إلى شمال أفريقيا ثارت بلاد المغرب على الحكم الفاطمي، وخلع ملك صنهاجة المعز بن باديس طاعة الفاطميين، متحولا إلى الخليفة العباسي، في الوقت نفسه، كانت في مصر قبائل بني هلال وبطن من سليم خؤولته من هلال. أشار وزير البلاط الفاطمي الحسن بن علي اليازوري باصطناعهم وتوليتهم أعمال أفريقيا، ودفعهم إلى حرب صنهاجة، فهزمت هاتان القبيلتان ابن باديس ووصلتا إلى تونس وحاصرتا القيروان، واقتسمتا بلاد أفريقيا فأخذت سُليم صحراء طرابلس، بينما أخذ بنو هلال تونس وغربها. سجل ابن خلدون تلك الهجرة الكبرى نحو شمال أفريقيا في باب بعنوان "الخبر عن دخول العرب من بني هلال وسليم المغرب"، وقال "لما جاز بنو هلال وبنو سليم إلى أفريقية والمغرب منذ أول المئة الخامسة، وتمرسوا بها لثلاثمئة وخمسين سنة، فقد لحق بها وعادت بسائطها خرابا كلها، بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمرانا، تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمَدر". ميلاد الشعر الملحمي البدوي برزت التغريبة الهلالية من نجد لشمال أفريقيا كعلامة فارقة في أشعار البدو القيسيين، وتروي قصة خروج شعب صحراوي بحثا عن الكلأ، لكنها استمرت قرنا أو يزيد، وخلّفت تراثا أدبيا شعبيا من ملاحم وسير وأشعار وأبطال أسطوريين. ما زالت الذاكرة الشعبية تحفل بأسماء أبطال التغريبة (أبو زيد الهلالي ويونس ودياب بن غانم) بجانب بطولات نساء رافقن هذه التغريبة (الجازية الشريفة وعزيزة الهلالية وخضرة الشريفة والدة أبي زيد وشقيقته شيحة)، واحتلت فيها المرأة مكانة اجتماعية، وعبرت من خلال الحكاية الشعبية عن حضورها البطولي. ارتبطت التغريبة بأشعار بدت إرهاصا لميلاد شعر شعبي بدوي، واختلط بنو هلال وسُليم مع قبائل بربرية وأمازيغية كبرى، مثل صنهاجة وكتامة ولواتة وهوّارة، واندمجت بعض قبائل قيس التي ارتحلت إلى المغرب وظلت هناك، وعاد بعضها إلى المشرق وعرفوا بالعرب "المغاربة" الذين نزلوا ليبيا ومصر منذ أوائل القرن الثامن عشر، فسكنوا الجانب الغربي من النيل وضفاف بحر يوسف من أسيوط إلى الفيوم، قبل الحملة الفرنسية بقرن تقريبا.