* email * facebook * twitter * linkedin يقترب المخرج الفلسطيني المقيم بفرنسا إيليا سليمان من فكرة الواقع الفلسطيني والفلسطينيين عامة والتضامن مع قضيتهم، في فيلمه الروائي الطويل "إن شئت كما في السماء"، بأسلوب تهكمي عال ربما هو الأسلوب الأنسب لنقد هذا الواقع المرّ، في مجموعة من اللوحات المشهدية الساخرة ذات الرمزية العميقة. يصوّر المخرج إيليا سليمان حياته الشخصية في قوالب مدهشة، تنم عن تشبّع سينمائي للمخرج. أما الأسلوب الساخر في رصد مشاهد الفيلم فكان في متناوله بشكل احترافي ملفت، ونلحظ ذلك من خلال اختياره الموفّق للمشاهد الثابتة، وفيها تتقاطع الحركات، واستغنائه بشكل كلي عن الكلام، فعلى مدار 102 دقيقة من عمر الفيلم لم ينطق بغير كلمتين؛ فالصمت عند إيليا سليمان عامل قويّ في التعبير عن الكثير. وخلال عرضه أول أمس في المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية ضمن القسم الرسمي خارج المسابقة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي 41، اعتمد الفيلم (إنتاج مشترك فرنسي كندي) على مشاهد كاريكاتورية، فالمخرج الذي هو بطل الفيلم وكاتب السيناريو، يحيل بالمتلقي إلى مجموعة من الرموز؛ إذ عبر رحلته انطلاقا من مدينته ومسقط رأسه الناصرة، يقدم العمل لوحات تعكس وضع فلسطين الشتات، وصورا من المقاومة المحتشمة، ثم يعبّر عن شتاته عندما هاجر إلى فرنسا، ليقدّم مشروع فيلمه قصد الدعم، وهناك يضع العمل في حلبة صراع آخر، مفاده أن فرنسا رغم تضامنها مع القضية الإنسانية في فلسطين، غير أنه لا يمكنها أن تدعم عملا سينمائيا مماثلا. ويرصد المخرج مجموعة من المشاهد التي توحي في الظاهر بأنّ النظام الفرنسي يعتني بمجتمعه في صورة الرجل المتشرد الذي تقوم المصالح الاجتماعية بالتكفّل به. ويشير إلى عمل رجال الشرطة الفرنسية، ليكون كل شيء وفق القانون، ويتجلى ذلك، مثلا، في مشهد جلوس إيليا سليمان في أحد المقاهي الباريسية، فيأتي فريق من الشرطة ليتأكد من أن المقهى لم يأخذ مساحة زائدة ولو سنتمترا من سطح المقهى، مقدما هذه الجزئية بسخرية موجّهة، مصورا رجال الشرطة في قالب ساذج. وكأن المخرج أراد أن يشير إلى أن التعاطف الدولي للقضية الفلسطينية ما هو إلاّ تعاطف واه، وهو ما فعله لما رحل إلى نيويورك، ففي مشهد يقف إيليا سليمان مشدوها في لقاء تضامني فلسطيني أمريكي، حيث أظهر أن العرب لم يغيروا من عاداتهم في التصفيق والتهليل، إذ صوّر الحاضرين يصفقون، في كل مرة يذكر أسماء المتدخلين في اللقاء، وكأنّهم يصفقون لإنجاز عظيم! المخرج لم يتوقف عن إدهاش الجمهور في كلّ مرة يقدّم فكرة جديدة، بل كان قادرا على إعطاء أمثلة كثيرة أخرى؛ إنه لا ينضب عن فعل ذلك، وبنفس جرعة السخرية. ولعل أقوى المشاهد لما أراد أن يحاصر رجال شرطة أمريكان امرأة تحمل علم فلسطين، وكأنّها تشكل قضية أمنية لبلدهم، فالولايات المتحدةالأمريكية تعيش وضعا أمنيا غير مستقر، وقد أسقطه العمل؛ في مشهد حمل الأسلحة من مواطنين في إحدى الأسواق الممتازة؛ في إشارة إلى غياب الثقة بين الناس، وتفشي الإجرام بالبلاد. وفي أمريكا، في مشهد يقرأ أحد العرّافين ورق اللعب، ويخبر إيليا بأن الأوراق تقول إنّ هناك بلدا اسمه فلسطين، ثم يقول مترددا: "ربما هناك وطن اسمه فلسطين، بل هناك وطن اسمه فلسطين". ويعود إيليا في نهاية الفيلم إلى بيته في الناصرة. وفي ملهى ليلي يحتسي كأسا، يشاهد بأسى الشباب يرقصون على أغنية "عربي أنا" للمغني اللبناني يوري مرقدي، متحسرا على المقاومة الفلسطينية وحالها. الفيلم كذلك يتعمّق في رصد تعاسة الوضع العربي حيال قضية فلسطين، والفلسطينيين الذين فقدوا أوطانهم، وكل الأوطان التي هاجروا إليها ليست أوطانهم مهما كان. جدير بالذكر أن الفيلم عُرض للمرة الأولى في مهرجان كان السينمائي في دورته الأخيرة، حيث فاز بجائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما "فيبرسي". وللإشارة، قدّم المخرج الشهير ثلاثيته، والبداية مع فيلم "سجل اختفاء" (1996)، ثم فيلم "يد إلهية" الحائز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان "كان" 2002، ثم فيلم "الزمن الباقي" الذي رشّح للسعفة الذهبية في "كان" 2009، وهو عبارة عن سيرة ذاتية، يشارك إيليا بدوره فيها عبر قصة الحياة اليومية لأسرة فلسطينية منذ عام 1948 حتى اليوم، وهموم أجيال من الفلسطينيين.