نظّمت "نوفال فيليا" وهي الصفحة الجزائرية المتخصصة في الأدب والرواية مؤخرا، بثا مباشرا مع الشاعر والمفكر أدونيس، أداره الباحثان وائل فخر الإسلام سعادنة من جامعة ميلة، والباحث وليد شايب الذراع من جامعة جيجل، وفتحا معه جملة من القضايا، من أهمها التراث والحداثة، ومعالم الراهن العربي العابس. كما لم تغب الجزائر عن الحديث، وكان أدونيس، كعادته، جريئا حتى النهاية. شكر أدونيس في مستهل تدخّله، مباشرة من بيته بباريس، الشعب الجزائري، الذي قال إنه يكنّ له كل الاحترام والتقدير، ثم ذكر بعضا من أصدقائه، كان على رأسهم الروائي أمين الزاوي، ثم المناضلة جميلة بوحيرد، وكذا الشاعر صلاح الدين مرزوق. وتوقف أدونيس بداية عند "الثابت والمتحول"، واعتبرهما مصطلحين اختارهما لدراسة التراث العربي بعيدا حسبه عن النظريات التي كانت سائدة، منها الماركسية والدنيوية، وموضحا أنه أراد دراسة التراث بأدواته نفسها، ومن داخله ومن ذاته. كما أن "الثابت والمتحول" يخدم دراسة التراث أكثر من غيره. وأشار إلى أنه لا متحول بالمطلق، ولا ثابت بالمطلق؛ فكلاهما قد يأخذ دور الآخر؛ بمعنى أن يصبح الثابت متحولا في مرحلة تاريخية ما، والعكس صحيح. واعتبر أدونيس أن الثابت في الثقافة العربية هو تلك الثقافة التي ظلت مرتبطة بالسلطة وبمؤسساتها. أما المتحول فهو عبارة عن مجموعة من التساؤلات والتحركات والأعمال التي تنافس هذا الثابت الجامد، وكل ذلك انعكس على الحياة الثقافية والسياسية. وأشار إلى الذات العربية المعاصرة، التي هي منغلقة على نفسها، ولا تعترف بالآخر (الكافر)، وبالتالي تراجعت، ولم تعد تعكس مكانة تراثها الفكريّ الثري والرائد في التراث الإنساني، ولم تعد امتدادًا له، ولتجارب رواد فيه عبر التاريخ سبقوا التجارب الغربية بقرون طويلة. كما أكد المتحدث أن المجتمع لا يتغير ما لم تتغير مؤسساته؛ من مدرسة وجامعة ونظم سياسية وبنى سائدة، وفي العالم العربي والإسلامي، اليوم، لازالت البنى القبلية التقليدية مترسخة. والمطلوب، كما قال أدونيس، هو توفر حرية التفكير للتحليل، ثم لتغيير الواقع، وبالتالي مواجهته. وهنا فسر يقول إن الإسلام لا يخاف من الحرية؛ فهو ليس كوخا في وسط الصحراء يخشى النسف، بل يقر بالتغيير، وهذا ما ثبت حسبه في بعض الآيات القرآنية. وتحدّث أدونيس عن الثورة ومفهومها، الذي أصبح اليوم فضفاضا، في حين يتطلب الأمر توضيح عمقها ومعناها الجوهري بعيدا عن المفهوم السائد في 10 سنوات الأخيرة؛ حيث دمرت الثورات كل شيء؛ من مؤسسات وأنظمة وبشر، وتركت ما كان يجب تدميره. الثورة، كما عرفها أدونيس، هي انتقال من حال سيئة إلى حال أفضل أو أقل سوءا. وتوقف عند ما يعيشه العالم الإسلامي وقال: "لا يجب اتهام الإسلام، بل يجب اتهام المسلمين الذين فهموا دينهم خطأً. واعتبر بعضهم أن الإسلام رأسمال سياسي". وهنا توقف عند ثورة التحرير الجزائرية، "التي دفع فيها الشعب ثمنا غاليا، فأصبح انتصاره نموذجا للحرية يُقتدى به"، معلقا على ما عرفه العالم العربي من نضال، بأنه كان انتفاضات هنا وهناك، لم تفرض حقا واضحا على المستعمر، بينما الثورة الجزائرية امتد صداها إلى العالم. وأسهب أدونيس في الحديث عن حال العالم العربي والإسلامي اليوم وما يعانيه من تخلف وتبعية رغم غناه بالثروات التي ينحني لها العالم؛ فالمال موجود، والعبقريات كذلك، لكن ما ينقص هو الحكم الراشد. وعن اللغة قال إنها تاريخ وشعور وعلاقات، وغيرها كثير، ولا يمكن حصرها في مفردات. أما الحداثة فإنه يراها تقوم على السؤال والبحث بعيدا عن الجواب الجاهز؛ مما يخلق النقاش والتفاعل. وعن الظاهرة الثقافية العربية الراهنة فاعتبرها الأسوأ في التاريخ بفعل تراجع دور المثقفين الذين سماهم "الجبناء" أو اللاهثين وراء المال؛ إذ أصبحت الطبقة الثقافية لا تعدو طبقة تجارية وبامتياز، وما عزّز هذا الانحطاط هو غياب مشروع عربي شامل، قام مقامه التدخل الأجنبي وهيمنته. وتذكر أدونيس خلال هذا الحديث صديقه المقرب محمد أركون، الذي اعتبره في أعلى درجات سلّم المفكرين، وأنه أحسن ما قال في الإسلام، ومع ذلك لم يكن كل ذلك كافيا؛ ما يتطلب الكثير من التجذر في الطرح والتفكير.