قضى الأستاذ عبد الحكيم مزياني سنوات طويلة في العمل على حماية التراث الثقافي الوطني خاصة العاصمي منه، وتمكن من إيصال الثقافة بممارساتها المختلفة إلى الوسط الشعبي من خلال البرامج التي أنجزها منذ السنوات الأولى للاستقلال خاصة في مجالي الموسيقى والسينما، إضافة إلى إصداراته الخاصة بالثقافة الجزائرية وبتاريخ الثورة التحريرية. تفاصيل أخرى يكشفها السيد مزياني في هذا اللقاء مع "المساء". - المساء: نشأتم في عائلة عريقة في النضال وحب الفن كيف أثر ذلك على شخصيتكم ومساركم فيما بعد؟ * عبد الحكيم مزياني : ولدت في قلب حي القصبة وبالذات بشارع الاخوة راسم وتأثرت بسيرة والدي الشهيد الطاهر مزياني، إمام مسجد "سيدي رمضان" الذي كان يستدعى من طرف السلطات الفرنسية بسجن "سركاجي" للصلاة والترحم على ارواح الشهداء الذين ينفذ فيهم حكم بالإعدام بالمقصلة بداية من الشهيد زبانة الذي لم تستطع المقصلة قطع رأسه إلا بعد 3 ضربات ومع ذلك ولم يقطع رأسه فانتزعه الفرنسيون من جسده عنوة، لقد كان أهل القصبة يجلون والدي باعتباره أيضا عضوا في جبهة التحرير الوطني آنذاك، الأمر الذي أثار فرنسا، حيث أرغمته على إمضاء تعهد يقضي بتحمله مسؤولية كل ما يجري في القصبة من أعمال ضدها إلى أن استشهد سنة 1957 بسوق الجمعة، وروجت الصحف الفرنسية آنذاك أنه انتحر، وهو ما لا يمكن لرجل دين أن يقوم به. جندني والدي لخدمة الثورة رغم صغر سني، إذ كنت أنقل السلاح والوثائق، وشجعني من جهة أخرى على تذوق الموسيقى، فالتحقت بمعهد لتعلم الموسيقى العالمية (سولفاج)، وألحقني بمدرسته بالقصبة، حيث كان يعلم فيها الأناشيد الدينية والوطنية ضمن مجموعات صوتية تخرج منها فنانون منهم مثلا الحاج نور الدين. كما فتحت عيناي على صداقات والدي - رحمه الله - كصداقته مع باشطارزي والإخوة محمد وعبد الرزاق فخارجي ومحي الدين لكحل، ودحمان بن عاشور وبن ?ر?ورة وغيرهم، كما تعلمت منه شتى أوجه الثقافة الجزائرية المختلفة تماما عن الثقافة الفرنسية، لقد كان مدافعا شرسا عن اللغة العربية، وكان من جهة أخرى أنيقا ووسيما ومحبا لوطنه ودينه، وقد جسد شخصيته الفنان الراحل محمد كشرود في فيلم "برباروس" للمخرج حاج رحيم. تأثرت بهذه الثقافة والتنشئة حتى بعد استشهاد والدي الذي كان يقول إن الاستقلال هو الجهاد الأكبر، وبالفعل التحقت غداة الاستقلال باتحاد الشبيبة الجزائرية والاتحاد الوطني للثانويات والمتوسطات، وكنت مسؤولا ثقافيا وممثلا ومخرجا مسرحيا، إضافة إلى نشاطي في الحركة الجمعوية. في سنة 1968 شاركت في ملتقى سينمائي دولي احتضنته مدينة شرشال حضره أبرز المخرجين وكتاب السيناريو في العالم آنذاك. منهم "ألبيرتو لاتوا?و" و"جون ستانبانغ" و"فريد لانغ" وكان فرصة لي للتكوين مما تأتى عنه انشاء أندية للسينما خاصة بالعاصمة، وبالتحديد قاعة "ابن خلدون" ثم أنشئت أندية أخرى عبر الوطن. في سنة 1972، تأسست الاتحادية الجزائرية للأندية السينمائية التي كنت أترأسها، وذلك بمدينة متليلي بغرداية، وهكذا تم انشاء 500 ناد سينمائي عبر الوطن على مستوى البلديات، والجامعات والوحدات الاقتصادية والمدارس العسكرية والقرى الزراعية وغيرها. وفي 1 نوفمبر 1974 احتضنت الجزائر الملتقى المغاربي للأندية السينمائية بالعاصمة، ثم احتضنت مدينة المحمدية بالمغرب نفس الملتقى، كما احتضنت قرطاج بتونس في نفس الشهر ملتقى عن "السينماتوغرافيا" وكلها ملتقيات شاركنا فيها لنأسس الاتحادية المغاربية لجمعيات الأندية السينمائية وأصبحت عضوا في المكتب التنفيذي مسؤولا عن الأندية السينمائية العربية والإفريقية. - و ماذا عن عملكم في حقل الإعلام؟ * دخلته سنة 1971 من خلال جريدة "ألجيري أكتواليتي" (الجزائر الأحداث) ثم "الثورة الإفريقية" وعملت في فرنسا في "افريقيا - آسيا" ثم عدت إلى الجزائر لأكتب في "المجاهد"، "الوطن" و "لوماتان" و"لكسبريسيون" كما أنجزت عدة حصص قدمتها في التلفزة الوطنية منها "شاشة الجنوب". - لكم أيضا العديد من الإصدارات؟ * أجل، منها كتاب بعنوان "أول نوفمبر في المتيجة" الصادر سنة 1984 بفرنسا ثم طبع بالجزائر سنة 1985، ولقد كتب مقدمته الراحل كاتب ياسين، وأحضّر حاليا لكتابين سيصدران هذا الصيف، الأول بعنوان "السينما الافريقية بين الخيال والحقيقة" وذلك في إطار المهرجان الافريقي، وكتاب "الجزائر القديمة وإعادة تركيب الماضي". - خصصتم جانبا مهما للموسيقى الكلاسيكية الجزائرية في أبحاثكم ومشاريعكم، حدثونا عن التجربة؟ * التحقت بجمعية "الموصلية" سنة 1968 ثم عملت بها مكلفا بالإعلام، وتخصصت في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية الأندلسية، وفي سنة 1981 أسست جمعية "الفخارجية" مما سمح لي بتطبيق برنامج خاص متمثلا في جانب البحث التاريخي للموسيقى الأندلسية من حيث تطورها وانتشارها، علما أن فكرة التطور بقيت جامدة في الجمعيات، ويؤدي الشباب فيها القصائد دون فهم مما يقتل التفاعل مع هذه الموسيقى، ويسلبها روحها ويصعب بالتالي توصيلها للغير. مشروعي هذا لم يطبق في جمعية "الموصلية" على الرغم من تبنيه من قبل مجموعة من الأصدقاء خلال حفل تكريم عبد الكريم دالي الذي كان فقط بالموسيقى الروسية، الحادثة أثرت فيّ، فالتقيت مع الأستاذ سيد أحمد سري وتلاميذ الراحل دالي لنقوم بتكريم شيوخ الموسيقى بموسيقانا، وقمنا بتنشيط حفلات أندلسية لأول مرة خارج مقرات الجمعيات، ومن ثم خضنا نضالا لتعميم هذه الموسيقى، واعتبارها ثقافة وطنية وبالتالي أصبحت تؤدى ابتداء من سنة 1981 في القاعات السينمائية بالعاصمة. - هل تؤيدون فكرة دمج المدارس الموسيقية الجزائرية في جوق موسيقي واحد؟ * إن مزج المدارس الموسيقية الجزائرية في جوق واحد فكرة غير ضرورية، ذلك أن الاختلاف ثراء، بل أرى أن علينا تقوية كل مدرسة على حدى. - قدمتم عملية بيداغوجية مهمة تتمثل في فتح أقسام تعليم للجميع فهل كانت تجربة ناجحة؟ * بعد جهود تمكنت من إنشاء مدرسة قوية من خلال جمعية "الفخارجية" بمساعدة الأستاذ عبد الكريم محمصاجي، وتحقق ذلك في سبتمبر 1982 وكانت البداية بفتح 6 أقسام اضافة الى، استقبال اساتذة من مدارس غير عاصمية، منهم السيدة قارة تركي من تلمسان. فتحنا أقساما للأطفال، وآخر للموسيقيين من طبوع غير أندلسية قصد تعلم اصول هذه الاخيرة، وقسما للكبار من 14 الى 85 سنة لتعلم العزف والأداء في 6 أشهر .جاء بعدها تأسيس جمعية »الأندلسية« التي استقبلت الوافدين من المتعلمين ما بين 6 سنوات إلى 80 سنة، وكرمنا الشيوخ وأقمنا النشاطات الفنية كالمعارض والمحاضرات والحفلات. قررنا تدريس تاريخ هذه الموسيقى للموسيقيين أنفسهم، وأنشأنا مجلة خاصة، وقمنا بتسجيل وتنقيط هذه الموسيقى حفاظا عليها وبطرق علمية. انتشرت هذه الموسيقى الأندلسية في الاوساط الشعبية وأصبح الجزائري يتذوقها، وأصبحت العائلات العاصمية تلتقي على موائدها في الحفلات المقامة. - كيف تقيمون تجربة المحافظة على هذا الموروث وكيف كان إسهامكم الخاص فيه؟ * أنا متحفظ من بعض المبادرات، فالمدرسة التقليدية ضد هذا التسجيل وهو رأي متصلب وحجتها ان التسجيل يفقدها روحها وخصوصيتها، وأما المدرسة العصرية فترى ان الواجب هو التسجيل فقط ويجب انقاذ هذه الموسيقى ولو على حساب روحها وخصوصيتها وكلتا المدرستين تتحاوران بخطاب الصم. أعتقد أنه من الواجب تسجيل هذا التراث كتابة وبطرق علمية واستعمال كل الوسائل التكنولوجية الأخرى. ومن جهتي خضت تجربتين، الأولى هي فتح اقسام السولفاج وأخرى للتعليم التقليدي، والتجربة الأخرى هي آلية التسجيل على البرمجيات وقد بلغت 90 بالمائة. تجربة اخرى وهي تعليم الصغار من 3 إلى 6 سنوات التي رفضتها كل المدارس ما عدا دار حضانة فرنسية قرب عين الله يدرس بها اطفال من جنسيات مختلفة جزائريون، أمريكيون، فرنسيون، ألمان، تشيك وغيرهم، وفي نهاية السنة الدراسية صعد الصغار الى المنصة باللباس التقليدي الجزائري وبالآلات الموسيقية يؤدون الموسيقى الاندلسية، وقد التحق بهم أولياؤهم لتعلم هذه الموسيقى في أقسام خاصة. وأتذكر أنه خلال هذا الحفل خاطبتني سيدة فرنسية لا تعرف أني جزائري وصاحب المبادرة ، متذمرة من اللباس الجزائري واللغة العربية معتبرة إياها مظهرا من مظاهر العصور الوسطى، فأجبتها "نحن من علمناهم هذا الفن الراقي والجميل".