سخر الأستاذ اسماعيل هني حياته لخدمة التراث الموسيقي الجزائري الكلاسيكي والمغاربي عموما، إلى أن أصبح شيخا من شيوخ هذه الموسيقى العريقة يشار إليه في كل مناسبة. لم يجن هذا الفنان أي مكاسب مادية طيلة مشواره الطويل، لأن هدفه الأول هو حفظ هذا التراث دون مقابل، وتكوين أجيال جديدة قادرة على صيانة الموسيقى الجزائرية، وفي هذا الشأن فإن لإسماعيل هني باع طويل، التقته "المساء" وكان هذا الحوار. - فضلت أن يكون دخولك إلى هذا العالم الجميل عن طريق التكوين لماذا؟ * أشير فقط إلى أنني ولدت في حي القصبة، وفيها تفتحت عيناي على الفن والموسيقى، حيث كانت مهدا للفنانين، وقلعة حصينة للمحافظة على ثقافتنا الوطنية خاصة في فترة الاستعمار، ضف إلى ذلك تأثري بعائلتي الولوعة بالفن الشعبي والأندلسي، وهكذا كبرت على هذا الفن الجميل والراقي، إلا أن الموهبة وحدها لا تكفي، فقررت في بداية الاستقلال الالتحاق بالمعهد البلدي للموسيقى بالعاصمة، وفيه تتلمذت على أكبر الشيوخ، أذكر منهم الراحلين عبد الكريم دالي وفخارجي، واخترت اختصاص العزف على آلة البيانو، ومع تولي الراحل محي الدين بشطارزي إدارة المعهد اهتم بي وببوجمعة فرقان، واقترح عليّ الاختصاص في العزف على آلة القانون، وبالفعل دخلت الاختصاص وتمكنت من نيل الشهادة العلمية سنة 1973. - ما يلاحظ في مسارك الفني الطويل هو تنقلك بين المدارس الفنية والجمعيات الموسيقية، أليس كذلك؟ * بالفعل فبمجرد حصولي على الشهادة تركت العاصمة واتجهت لمدينة تلمسان، وعملت فيها ثلاث سنوات، واكتسبت مهارات من المدرسة التلمسانية، وتعاملت مع شيوخها منهم ملوك، بوعلي بريد سي وغيرهم. سنة 1981 أسست مع بعض الأصدقاء جمعية الفخارجية، وجعلنا الشيخ فخارجي رئيسها الشرفي، وقمنا بتكريمه، وفي سنة 1985 أسست جمعية السندسية ومكثت فيها 10 سنوات كرئيس لها، بعدها أي سنة 1997 أسست جمعية الانشراح، ولازلت أعمل فيها، وسبب هذا التنقل هو بعض المشاكل داخل الجمعيات والتي تختلقها بعض العناصر التي لا تخدم الفن، وكل اهتماماتها منحصرة في المصالح الآنية الضيقة، لذلك أترك لهم الجمل بما حمل، لأنني قادر على الانطلاقة في جهة أخرى ولايهمني سوى عملي. من جهة أخرى فأنا أيضا لا أميل إلى القعود في مكان واحد، حتى ولو كان في مسقط رأسي بالعاصمة، وأحب العمل في أية نقطة من أرض الوطن، تنقلي كان أيضا عبر المدارس الموسيقية الجزائرية، فأنا أؤدي النوبة المغاربية، والآلة المغربية، والمالوف القسنطيني، والمدرسة التلمسانية، وكلها لها نفس الروح والطبوع والنصوص الشعرية والاختلاف الوحيد يكون فقط في التنفيذ. - ماهي أهم المشاريع الفنية التي استطعت إنجازها خلال مشوارك الفني؟ * لعل أبرزها هو أنني أول من أنجز نوبة مغاربية موحدة في تاريخ هذه الموسيقى وكان ذلك منذ 20 سنة، الأمر الذي أثار إعجاب الاشقاء في تونس والمغرب خاصة، وتحدثت عنه كل وسائل الإعلام حينها، ولقد دعيت إلى التدخل مباشرة على التلفزيونات لتقديم هذا الإنجاز للجمهور، والحمد لله على هذا النجاح الذي لازلت أفتخر به. - لك تجارب رائدة في ميدان تسجيل التراث الموسيقي الأندلسي، حدثنا عن بعضها. * بداية أنا رئيس لجنة الموسيقى الأندلسية في الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، كما أني سجلت هذا التراث من خلال جمعية "انشراح" في ألبومين، علما أن التسجيل مرفوق بكتيّبات توضع مع الأقراص في العلب لشرح النصوص الشعرية بأدوات علمية، وذلك باستعمال 4 لغات (عربية، فرنسية، اسبانية، انجليزية) كما أنجزنا أعمالا مميزة السنة الفارطة إحياء للذكرى ال100 لرحيل الشيخ محمد سفينجة. - كيف تقيّم حضور الموسيقى الأندلسية، وهل لازال الإقبال عليها قائما؟ * الموسيقى الأندلسية أو الموسيقى الكلاسيكية الجزائرية هي موسيقي وطنية، وليست حكرا على طبقة أو فئة معينة، وليست موسيقى صالونات أو موسيقى البورجوازيين، بل إن أبناءنا في الأحياء الشعبية يقبلون عليها اليوم بحماس ويتعملونها، وهي تنتشر في كل الوطن، والحمد لله لم تستطع أية موسيقى أخرى أن تقضي عليها، إذ سرعان ما تأفل وتبتعد لتتسلم أمام تراث ثقيل وتاريخ طويل وقوانين علمية تزخر بها الموسيقى الكلاسكية الجزائرية، وأقول إنه حتى موسيقى "الشعبي" أو كما كانت تسمى موسيقى المداحين لم تنافسها على الرغم من الوسط الفني الجزائري وخاصة العاصمي، لقد صلت وجلت في العشرات من الدول ولم أجد لها مثيلا، أذكر أنه عبر أسفاري إلى الدول العربية يفاجئني الاشقاء بقولهم "إن الراي هو الموسيقى الجزائرية" لكنهم عند اطلاعهم على هذه الموسيقى خاصة الخبراء منهم يبهتون، بل إنهم لا يرقون إلى مستوياتها العلمية، مما يثير غيرتهم ويحسدوننا على هذا التراث الحضاري النادر، لذلك علينا كمجتمع وكدولة حمايتها مهما كلفنا ذلك من مال وجهد. - على الرغم من أن أغلب أعضاء فرقتك من الشباب إلا أننا لمسنا بينك وبينهم تواصلا نادرا وتعاملا مميزا؟ * أشير إلى أنني الوحيد كرئيس فرقة الذي يجلس في الوسط أو الجنب بين تلاميذي الأعزاء، وأراقبهم وتواصل معهم بطرق مشفرة، منها الغمز واللمز كي أوجههم دون أن يلحظ الغير ذلك، وأنا لا أحب رئيس فرقة يقف ويوجه علنا، فهذه تقاليد غربية لا تليق بنا، أقول فقط إن أعضاء الفرقة هم أبنائي ولا أحب من يقول لي"هم كأبنائك" بل هم أبنائي فعلا لذلك يمر التيار بيننا، وتجدنا في العزف نكشف أوجهنا البشوشة. - عزفت أمام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، فكيف وجدت التجربة؟ * عزفت أمام رئيسنا أكثر من 20 مرة، وهو انسان فنان يتذوق هذه الموسيقى بروح عالية وبحب، ويسعى لإظهارها لضيوفه الأجانب، لأنه يعلم يقينا أنها تراثنا وتاريخنا الوطني وذات مستوى راق يفخر أي جزائري بها، كما يحرص الرئيس - حفظه الله - بعد كل حفل أن يقدم لنا ضيوفه الأجانب ويتفقدنا ويسأل عن أحوالنا، بل يصل أحيانا ورغم البروتوكول إلى أن يسألنا عن بعض المقاطع أو بعض "الشغالات" التي لايعرفها، ومن جهتنا نحرص على أن نعزف له "الشغالات" التي يحبها، فهو ذواق ويعرف أصول هذه الموسيقى والحمد لله فقد "حمرنا له وجهه أمام الضيوف". - هل لنا معرفة بعض ضيوف رئيس الجمهورية الذين أعجبوا بدورهم بهذه الموسيقى؟ * هم كثيرون جدا خاصة من رؤساء الدول، ولعلي هنا أتذكر الرئيس الإيراني انجاد الذي استمع إلى مديح، وعبر عن إعجابه بالموسيقى الروحية والصوفية، ودعاني لبلاده لكن للأسف ذهب غيري. أشير فقط إلى أنني عزفت أمام الكثير من الرؤساء الذين أحبوا هذه الموسيقى، كفيدال كاسترو، ومانديلا وغيرهما، وكلهم أهديهم علب تسجيلاتي مسموعة ومرفوقة بشروحات مترجمة. - ألا ترى معي أنك لم تلق نصيبك من الشهرة والظهور؟ * أنا أعمل في صمت وهدوء ولا تهمني الشهرة الكاذبة التي سرعان ما تندثر كفقاقيع الصابون، ورغم ذلك فأنا مشهور ومتواجد في الساحة الوطنية والمغاربية خاصة بالمغرب وتونس، وأطلب بالاسم وحصريا من الوسط الفني، وأعمل على توحيد المغرب العربي في هذا المجال الفني. - ماهي أمنيتك؟ * أمنيتي أن تنشر هذه الموسيقى أكثر من خلال وسائل إعلامنا الوطنية، وأن تمثل أحسن تثميل في الأسابيع الثقافية الوطنية في الخارج ضمن جوق كبير وليس من خلال تخت متواضع. من جهتي لا أزال أدافع عنها ولا طائل مادي لي من وراء ذلك، فأنا أسكن في حي شعبي بالقصبة، في بيت سلالمه مهترئة، أستقبل فيه ضيوفي الأجانب الذين يندهشون من وضعيتي الاجتماعية، ويقاسمني هذا الهم جاري الفنان الكبير اعمر الزاهي، لكن عملنا هو الوحيد الذي يمكننا أن نفخر به أمام الجميع.