قد نبتغي محو بعض الذكريات، للمضي قدما في هذه الحياة، لكننا نتناسى أن الخلاص لا يكمن في النسيان، بل في التكيف مع كل ما مررنا به، ومحاولة استخراج العبر وتحقيق السلام مع كل شذرة منا. وهكذا حينما نحاول إعادة الكتابة على صفحات حياتنا، نجدها تحتفظ ببعض الكلمات أو الأحرف، التي تمثل مراحل منها، ومع ذلك فهي على استعداد لاستقبال الجديد، كي تستمر الحياة. «الرقاع... أو اضطراب الزمن" هو عنوان المعرض للفنان التشكيلي سعيد دبلاجي، الذي يحتضنه رواق "عايدة" بدار الضياف (الشراقة)، ويضم مجموعة معتبرة من اللوحات، رسمها الفنان بالأسلوب شبه التجريدي، واستعمل في أغلبها تقنية "التحويل"، التي تنص على أخذ صورة بالمقلوب، ووضعها على اللوحات، ومن ثم استعمال الحرارة لكي ينتقل موضوعها إلى اللوحة. بالمناسبة، قدمت صاحبة رواق "عايدة"، السيدة سعاد طيار، ل«المساء"، تفاصيل عن هذا المعرض، فقالت إن الفنان سعيد دبلاجي كان مستعدا لعرض مجموعة من لوحاته الجديدة عام 2020، إلا أن الظروف التي أعقبتها جائحة "كورونا" أجلت حدوث ذلك، ليتم تنظيم المعرض آخر سنة 2024، مع إضافة لوحات أخرى رسمها الفنان. وأضافت أن التشكيلي استلهم أعماله من كتابات محمد ديب وأشعار محمود درويش، وهو ما يظهر جليا في أكثر من لوحة، حيث وضع بعض نصوص محمد ديب على لوحاته بتقنية التحويل، نفس الشيء بالنسبة لأشعار محمود درويش، مثل اللوحة التي غلبت عليها ألوان علم فلسطين. وعن فلسطين، رسم لوحة أخرى لشجرة الزيتون، التي تعبر أيضا عن مؤلفات ديب، ليؤكد أهمية، بل وضرورة أن يتنعم الإنسان بالحرية، التي يتوق إليها في كل زمان ومكان، فالحرية هدف أسمى لكل إنسان، وتابعت طيار أن الشعراء يتغنون دائما بالحرية، وهو ما نراه في بعض لوحات دبلاجي، التي اعتمد في أكثرها على تقنية التحويل بغرض التغلغل في أعماق أدب ديب ودرويش، فقد أخذ أجزاء من إبداعهما ووضعهما مباشرة على إبداعه، تكريما لهما ربما؟ أو تأكيدا على تأثره الكبير بهما إلى درجة تخليد أجزاء من أعمالهما في أعماله؟. يعرض الفنان أيضا بورتريهين عن المجاهدتين جميلة بوحيرد ومنى، اللتين اشتركتا في العديد من النقاط، تأتي على رأسها نظرتاهما المصممتان والثاقبتان وهما تقابلان المصور الأجنبي، الذي أجبرهما على التقاط صور لهما، لأجل استخراج بطاقة التعريف. بالمقابل، ذكرت صاحبة "عايدة"، استعمال الفنان لتقنية الأكريليك، مع عرض خمس لوحات بتقنية الأكوارال، كما استعمل في الغالب اللون الأخضر رمزا للأرض، وبالتالي للحرية، واللون الأزرق حبا فيه للبحر، فهو ابن مستغانم، والأصفر رمز لشمس البلاد، مع استعمال طفيف للأحمر والأسود الذي اعتبره رمزا للظلامية التي طغت على العالم مؤخرا. وفي هذا قالت "رغم أن سعيد دبلاجي يستعمل بكثرة اللونين الأخضر والأزرق في لوحاته، أي الألوان الباردة، فإنني اعتبرهما لونين ساخنين، لأنهما يمثلان مواضيع ساخنة، مثل الحرية، لنشهد تحول طبيعتهما في أعمال التشكيلي"، وواصلت مجددا، أن الحرية موضوع ساخن، والإنسان يبحث دائما عن الحرية، وقد كتب عنها محمد ديب، ومثله فعل محمود درويش. في المقابل، رسم الفنان أيضا لوحات عن مواضيع تتعلق بالحرية، لكن بشكل مختلف، مثل لوحات تعبر عن الهجرة غير شرعية التي طفحت بشكل كبير، وكذا عن البواخر والصيادين، لأنه ابن مستغانم، لهذا ارتأى أن يرسم عن محيطه أولا، ومن ثم عن الطبيعة ثانيا. أما عن تخصصه في رسم لوحات بالأسلوب شبه التجريدي، ذكرت طيار أن الفنان حينما ينتقل إلى الفن التجريدي أو شبه التجريدي، بعد أن برع في الفن الواقعي، فإن أعماله تكون مفهومة من قبل الجمهور، ويشعر بها بشكل عميق، بل ويصاب بقشعريرة وهو يشاهدها، لأنه استطاع أن يتغلغل فيها، وهو حال لوحات سعيد دبلاجي. عودة إلى عنوان المعرض، الذي استلهمه الفنان من تقنية الرقاع، أي التحويل التي كان يقوم بها الفراعنة قديما، من خلال حك أو خدش البرشمان لإعادة الكتابة عليه، رغم وجود بعض الحروف التي بقيت راسخة ترفض الرحيل، وهنا قالت طيار، إنه يرمز إلى الحياة التي نحاول فيها تجاوز الصدمات، لكننا نعجز عن محو ذكرياتنا التي تبقى آثارها في أعمقانا، نتذكرها أحيانا، لأنها تشكل شذرات من محطات في حياتنا. مضيفة أن دبلاجي لجأ إلى المنبع الذي منه جئنا إلى هذه الحياة، ومن خلالها يمكننا التقدم بالشكل الصائب. للإشارة، الفنان سعيد دبلاجي، أستاذ بمدرسة الفنون والآداب في مستغانم، منذ سنة 2016 إلى غاية اليوم، سبق له وأن درس بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة بمستغانم من سنة 2001 إلى 2015، مسؤول أيضا على رواق جامعة مستغانم وشارك في تنظيم عدة طبعات للتظاهرة الدولية للفن المعاصر "موست آرت". نظم عدة معارض فردية، وشارك في معارض جماعية بالجزائر وإسبانيا وفرنسا، علاوة على مشاركته في فعاليات فنية دولية.