العالم الغربي يضيق بنفسه ذرعا فلا يجد دونه مجالا أفسح من عالم الخيال. تلكم هي النتيجة التي توصلت إليها بعد أن فرغت من مطالعة روايتين اثنتين كان لهما تأثير كبير في القراء عبر العالم أجمع، وأعني بهما: رواية (فهرنهايت 451) للروائي (راي برادبري Ray Bradbury) ورواية (المنحر رقم 5) للروائي (كورت فونيجوت Kurt Vongut)، الأمريكي الجنسية، الألماني الأصل. وبالفعل، فالعالم الغربي يتحرك في جميع الاتجاهات، عسكريا وثقافيا واقتصاديا وفضائيا، لكن يبدو عليه في بعض الأحيان، بل في معظمهما، أنه يريد أن يخرج من جلدته، أن يأبق عن ملك ربه، على حد تعبير شاعرنا العظيم أبي العلاء المعري. في الرواية الأولى، يتخيل الكاتب أن الإنسانية بلغت درجة عالية من النمو حتى إنها صارت تريد التخلص من ماضيها، وأول خلاصها حسبما تراه لا يمكن أن يجيء إلا من الكتب نفسها، أي إحراقها، لأنها تمثل كل ما له صلة بالتاريخ الإنساني. وهكذا تنطلق عملية إحراق الكتب في كل مكان، ولا يكاد ينجو منها كتاب واحد. غير أن الذين يدركون قيمة الإنسانية، ويعرفون حق المعرفة أن هذه الإنسانية تقوم على التواصل فيما بينها، لا يريدون أن يندثر الكتاب. ولذلك يضطلع كل عاشق للكتب التراثية بحفظ هذا المؤلف الجليل أو ذاك قبل أن تلتهمه نيران محاكم التفتيش الجديدة في العالم الغربي. وبذلك يكون في مقدور عشاق الكتب أن يجتمعوا فيما بينهم وأن يقرأ الواحد منهم هذا الكتاب الذي حفظه عن ظهر قلب أو ذاك، بل إن البعض منهم لا يعرفون بأسمائهم، بل بعناوين الكتب التي حفظوها. وذلك بطبيعة الحال، خيال في خيال، لكنه قد يتحقق في أرض الواقع ذات يوم إذا نحن نظرنا بعين البصيرة إلى ما يحدث اليوم من مكاره في عالم الطبيعة التي تحيط بنا. أما الرواية الثانية، فإن مؤلفها الذي خبر أهوال الحرب العالمية الثانية في بلده الأصلي، أي في مدينة (دريسدن)، تلك التي انهالت عليها مئات الآلاف من القنابل في جانفي ,1945 فجعلتها قاعا صفصفا، -أقول- إن مؤلفها حاول قدر الإمكان أن ينسى ما حصل بألمانيا، ولذلك تصور عالما بعيدا عن الأرض، هو عالم يعيش فيه عاشقان اثنان، ولا يريدان أن تكون لهما علاقة لا بالماضي القريب، ولا بالماضي البعيد، ويكون لهما ما أرادا، غير أن مقتل الرئيس كنيدي في أواخر عام ,1963 يدفعهما دفعا إلى معاودة الاتصال بكوكب الأرض. هذا الهروب إلى عالم الخيال، ونحو الأزمنة الآتية التي لا يعرف الإنسان شيئا عنها، هو ما يحدث اليوم في عالم الفن الروائي في العالم الغربي، وفي أمريكا على وجه التحديد. ونحن نتحقق من هذه الوجهة كلما تفرجنا على فيلم من الأفلام الجديدة التي تخرجها هوليوود، أي وجهة الخيال العجيب والزمن العجيب، حتى إننا لنتساءل ما إذا كان في مقدور الإنسانية أن تسير على قدميها في المستقبل.