خلال الثورة التحريرية لم تكن قيادة جبهة التحرير الوطني لتغفل الجانب الاجتماعي للثورة، فعملت على التأسيس للدولة الجزائرية على كل الأصعدة انطلاقا من أن الثورة ليست حربا وإنما كفاحا غير المفاهيم، فقادة الثورة لم يهتموا فقط بحمل السلاح ومحاربة الاستعمار واسترجاع السيادة الجزائرية وإنما حرصوا بالمقابل على الاهتمام بمقومات الأمة الجزائرية وثوابتها من خلال نشر الوعي وسط المواطنين والاهتمام البالغ بالأطفال رجال الغد وبُناة مستقبل الجزائر.. هذا الاهتمام والحرص الشديدين أدى بزعماء الجبهة للتفكير في الطفولة الجزائرية ولذلك تم إنشاء مراكز سميت وقتذاك ب''دور الطفولة الجزائرية'' التي كانت تتواجد بالعاصمة التونسية ومنها مركز ''ياسمينة'' في مدينة المرسى بضواحي تونس وأيضا مراكز: ''سيدي بوسعيد''، ''السرور''،''عيسات ايدير'' وكذلك مركزي ''اريانة المدينة'' واريانة الفلاحية''. هذه المراكز كانت تخضع لنظام جزائري محض بحيث يشرف مدير ومساعدوه على المركز الذي كان يضم ما بين 200 الى 300 طفل جزائري وتتفاوت الأعداد حسب قدرة استيعاب كل مركز. ويشرف على عملية التدريس معلمون جزائريون كانوا في معظمهم مجاهدين جندتهم الحكومة الجزائرية المؤقتة بقيادة المجاهد ''فرحات عباس'' ومن بعده ''بن يوسف بن خدة''. كانت البرامج التربوية جزائرية محضة وكانت في معظمها تخص تاريخ وجغرافيا الجزائر، الى جانب الارتكاز على بعض البرامج التونسية على اعتبار أن الأطفال كانوا سيجتازون الشهادة الابتدائية في تونس ثم مواصلة مشوار التعليم الى الجامعة وفق المقررات الدراسية التونسية، بحسب ما أكده لنا الأستاذ قواسمية عبد القادر في حديث مطول عن ديار أطفال الحدود وهو الذي تخرج من إحدى تلك الدور، مشيرا إلى ان كثيرا من أطفال المراكز الذين بلغوا سن 18 سنة التحقوا بجيش التحرير وكلهم حماس لحمل السلاح وتحرير الوطن. كفاح مسلح..وحرص على مقومات الأمة كانت الحكومة الجزائرية المؤقتة تولي عناية خاصة بهؤلاء الأطفال بحيث كانت تشرف على حفلات ختان الصغار، كان يحضر تلك الاحتفالات رئيس الحكومة المؤقتة المجاهد ''فرحات عباس'' الى جانب ممثلين عن الحكومة الجزائرية المؤقتة مما يدل على أن قيادة الحكومة لم تكن تشتغل بالجانب السياسي للكفاح المسلح لتحرير الجزائر فحسب وإنما اهتمامها كان أيضا منصبا حول مستقبل الجزائر ما بعد الاستقلال وخير دليل هو هذا الاهتمام الذي كانت الحكومة الجزائرية المؤقتة توليه لدور الطفولة في عز سنوات التحرير، هذه الالتفاتة من أعلى هرم السلطة الجزائرية خلال سنوات حرب التحرير كان بهدف غرس الروح الوطنية في جيل المستقبل وإعداده لمهمة تحرير الجزائر في حالة ما إذا طال الكفاح المسلح، والتحرير هنا لا يقصد به إعدادهم لحمل السلاح كون تلك المراكز كانت تتبع نظاما شبه عسكري، وإنما كذلك تلقينهم أصول العلم والدراسة لكونهم رجال الغد وبُناة المستقبل. الحياة في مراكز الطفولة بتونس أو بالمغرب لم تكن موجهة فقط للدراسة او للنظام العسكري وإنما كانت ثقافية أيضا، بحيث كانت الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني تقيم بين الحين والآخر أو في مناسبة من مناسبات الثورة حفلات فيها مسرحيات وأناشيد ثورية حماسية. من بين الوجوه التي نشطت بهذه المراكز المرحوم احمد وهبي وجعفر باك ويحيى بن مبروك و''كنا نحن كأطفال مشحونين للغاية بحيث تزيدنا تلك الأغاني الوطنية رغبة لحمل السلاح والالتحاق بصفوف الجبهة وتحرير الوطن'' يقول محدثنا. قيادة جبهة التحرير.. فطنة وذكاء يخطئ من يعتقد أن الثورة التحريرية كانت مجرد حرب ونزاع في ساحات الوغى، إنما كانت ثورة شاملة سياسيا، ثقافيا واجتماعيا، حيث استطاعت ان تغير نظرة الإنسان الجزائري الى نفسه وظروف معيشته القاسية التي فرضت عليه، فمن الناحية السياسية لعب القادة السياسيون دورا محوريا في تنمية الوعي لدى الجماهير من جميع الفئات بمن فيهم الأطفال وما ذكرناه عن مراكز الطفولة تلك لهو خير دليل، يكفي أن نشير هنا الى أولئك الأطفال الذين أرسلهم العقيد عميروش الى تونس ليتعلموا ويدرسوا عوض أن يعملوا لدى ''الكولون'' او يرعوا الماشية. كما أن دور قادة الجبهة لم ينته هاهنا وإنما تعداه لرعاية جمع من أولئك الأطفال الذين وجدوا أنفسهم بعد الاستقلال دون أهل او مأوى بسبب قصف الجيش الفرنسي لقرى بأكملها، مما نجم عنه تشريد الآلاف. قيادة الجبهة لم تكن لتغفل عن هؤلاء فاحتضنتهم في مخيمات أقيمت لأجلهم ونذكر هنا أول قرية اشتراكية أقيمت على الحدود الجزائرية- التونسية تخضع لنظام جبهة التحرير وتدعى ''قرية المجاهد'' وكذا مركز ''جمزور'' في ليبيا الذي كان يرعاه السيد مهدي مثلما كان يسمى. بعد الاستقلال تفرق أطفال تلك المراكز كلٌّ صوب قريته وأهله، اما أولئك الأطفال الذين فقدوا أهلهم بقوا تحت رعاية الحكومة المؤقتة بقيادة ''بن يوسف بن خدة'' والحقوا فيما بعد بما سمي حينها ''دار الجيل الجديد'' التي كان مقرها بحيدرة تحت رعاية المجاهدة ''جميلة بوحيرد'' وكان يسيرها المدير عبد الرحمان ناصر الذي ألف كتابا حول هذه المراكز وسماه ''أطفال الحدود''.. هؤلاء عاشوا ثورة تحرير الجزائر وإن كانوا بعيدين عن ميادين الوغى وعاشوا فرحة استقلال الجزائر وقد غدوا شبابا ورجالا في الدولة الجزائرية الحديثة..