على الرغم مما حمّله الكاتب الفرنسي سيناك مونكو للحب من الوعظ الأخلاقي والاجتماعي والوطني بشكل مباشر وغير مباشر، في كتابه ''تاريخ الحب'' الذي ترجمه للعربية محمد الرحموني وصدر أخيرا عن مشروع ''كلمة''، إلاّ أنّه استطاع أن يقدّم رؤية مختلفة إلى حدّ ما عن تلك الكتابات التي رصدت لتاريخ الحب، حيث ربط هذا التاريخ بتاريخ المرأة والأمم والتطوّرات السياسية التي لاحقت كليهما سواء بظهور ديانات كالمسيحية أو الإسلام أو الحروب والنزاعات والانهيارات والتفسّخ الاجتماعي. يرى مونكو أنّ الأمم تنقسم في كلّ العصور إلى قسمين كبيرين سياسيا وأخلاقيا ''فنجد من جهة الشعوب الفاسدة المستسلمة للدعارة والإسراف، هذه الشعوب هي الشعوب المهزومة، ونجد من جهة أخرى أنّ الشعوب القوية هي التي تؤسّس مجدها على صفاء الحب وعلى الشجاعة وعلى الإخلاص والصبر، هذه الشعوب هي التي تزدهر وتنتصر''. يربط مونكو تاريخ الحب بتاريخ المرأة محظية وجارية وملكة وأميرة وعشيقة وراهبة وزوجة وابنة، لتكتب هذا التاريخ بتضحياتها تارة واضطهادها تارة وحريتها واستقلاليتها تارة، وإنصاف العقيدتين المسيحية والإسلامية لها تارة. مؤكّدا أنّها بطلة هذا التاريخ وصانعة كثير من أحداثه، ''كلّما كانت المرأة محبوبة ومحترمة باعتبارها رمزا للشرف ولكرامة الأسرة، اكتسب الرجل الشجاعة والفخر والاستقلال الفكري وبمثل هذا تتأسّس الأمم العظيمة''. لم يترك سيناك مونكو لنفسه فرصة التأمّل والبحث في أوجاع وآلام هذا التاريخ المضني للحب، ليس باعتباره فقط مجرّد عاطفة نبيلة، بل باعتباره أيضا يشكّل وجها خطيرا للجنس، ونصيب كلّ من المرأة والرجل، حيث كانت تعليقاته واستشهاداته وقصصه بين الحين والآخر، تؤكّد إصراره على ذلك البعد العاطفي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي في أحيان أخرى، فالمرأة الغالية تقف مع زوجها في المعارك الحربية تسانده وتبثّ فيه روح القتال للانتصار، فإذا فاز فرحت به وبما حصد من غنائم وإن هزم دفعت بأطفالها تحت العربات وقتلت نفسها. في المجتمع الوثني كان الرجل والمرأة كلاهما في بحث عن قرينه، ينخرطان في مساع لا تعدمها النزعة الحسية، لقد كانا يختبران أحدهما الآخر فكان الجمع بين حب القلب وشهوة الحواس بمثابة تمهيد للزواج، وفي المسيحية يبحث الزوجان عن أحدهما الآخر ولكن عن طريق اختيار الروح والقلب فينظر الطرفان في الجانب الروحي أولا ثم يتم الاختيار بتوءدة وتبصر''، ويرى أنّ المرأة العربية بعد ظهور الإسلام ''لم تعد مجرّد شيء، بقرة وحمار البطاركة الأوائل أو حمار قانون الألواح الإثني عشر، لقد أصبحت عنصرا من العائلة، وربما أكثرها احتراما، ولئن ظلّت خاضعة فقد تمتّعت بحقوق شخصية وبثروة معتبرة، فالزوج ليس مطالبا فقط بإطعامها بل باحترامها والإحسان إليها''. يحكي مونكو عن ملوك وأمراء ودوق ودوقات وكهنة وكاهنات فاسدين، يحكي حكاية الملك هيلبيرتك الذي خنق زوجته الملكة من أجل ''سرية''، وخيانة الملك كلوتار لزوجته الملكة إنقوند مع أختها، وكذا أبناؤه الذين كانوا على شاكلة أبيهم حيث كانوا يتّخذون الزوجات والسريات من كلّ فئات المجتمع، وإيديت زوجة إدوارد ملك إنكلترا التي كانت تنام إلى جواره دون أن تسمح له بمسّ جسدها، والكونتيسة الإنكليزية كوفنتري التي توسّطت لدى زوجها لمصلحة الرعايا الذين انتفضوا في المقاطعات فعاقبها عقوبة امرأة زانية، أمر بأن تركب مطية بعد أن تجرّدت من كلّ ملابسها وأن يطاف بها في طرقات المدينة. ويتوقّف مونكو ليقول ''هذه الشهوانية الممزوجة بالشراسة ليست حكرا على الملوك، فقد أبدى أتباعهم استعدادا ليكونوا نظراءهم في الأمر، بل تفوقوا عليهم أحيانا''، ثمّ يحكي مونكو حكاية دوق روشينغ ''كان أقوى أسياد أوسترازيا يتلهى بحرق أفخاذ جواريه المسكينات بواسطة شمعة يشعلها ويطفئها بين أفخاذهن العارية، وكلّما كن يتلوين من ألم الحروق البليغة كان يطرب لذلك، وبالإضافة إلى ذلك كان لدى هذا السيد الإقطاعي الكثير من الفطنة ليمارس اللعب بالكلمات، فلما تجرأ شاب وشابة يعملان في مزرعته على أن يتزوجا دون إذنه استشاط غضبا ومع أنّه قدّم لأحد الكهنة ضمانا بأن لا يفرّق بينهما فقد زوجهما على طريقته الخاصة إذ دفنهما حيين في نفس القبر. إنّ الكثير من الحكايات والنماذج التي يقدّمها مونكو في كتابه تتميّز بالتنوّع والثراء على بساطتها، ليس لكونها تغطي عصورا حديثة وتمتدّ لشعوب كثيرة من غاليين وجرمانيين مسيحيين وبرابرة وعرب ومسلمين وأوروبيي عصر النهضة، ولكن لكونها دالة وتحتمل الكثير من التأويل، من هذه النماذج : قصة ابنة الملك سيقور ملك اسكندنافيا التي تدعى ألفيلدا، كانت ألفيلدا على قدر من الشجاعة والعفة، وكانت تظهر دائما للعامة متّشحة بحجاب، وقد عهدت بحمايتها الشخصية إلى محاربين اثنين يتم اختيارهما من بين أشدّ محاربي المملكة، ثم إنّ والدها الملك أشاع في من حوله أنّ البطل الذي يروم خطبة ابنته أن يصرع أولا حارسيها الاثنين، لم يقبل التحدي سوى القرصان الشاب آلف، وكان النجاح حليفه، وبعد إنجاز المهمة لم يبق له في ما زعم سوى أن يحضر إلى القصر لينال أرق المكافآت، ولكن العذراء ذات الدرع اشترطت اختبارات إضافية فجمعت وصيفاتها وأعطتهن لباسا حربيا واتّخذت لنفسها مثلهن وجهّزت مراكب واندفعت نحو خليج فنلندا على عادة القرصان، لحق بها آلف وأدركها واندلعت بينهما معركة حربية فتصادمت مراكبهما وتشابكت، صعد آلف على سطح سفينتها فحاولت صده وتقاتلا وجها لوجه، فعاجلها أحد أصحابه بفأس على رأسها فطارت خوذتها ووقعت على قفاها، ولدى رؤيته وجهها الذي كان ممتقعا، ومع ذلك لم تفارقها أنفتها، توقّف عن مقاتلتها حبا وإعجابا، وأخيرا رضيت أن تكون زوجة أشدّ المحبين مثابرة''. ويحكي أنّ مدينة مرسيليا الشهيرة أخذت اسمها من قصة حب أخّاذة وشاعرية غاية في النبل والصدق، ففي سنة ستمائة قبل ميلاد المسيح، ألقى قارب فوسياني مراسيه قرب إقليم بوش دوي رون على أرض السيقوبريج، فاستقبل الملك نان ملك البلاد أولئك الغرباء بكل لطافة الضيافة القديمة، فأقيمت حفلة كبيرة في قصره جمع فيها على مائدة الأكل عدداً كبيراً من الراغبين في خطبة ابنته التي كان عليها أن تختار بنفسها عريساً من بينهم، حثّ الملك نان الفوسيين على الجلوس إلى مائدة العائلة فسارعوا بالقبول، لم تحضر الشابة المسماة جيبتيس أو بيتا الحفل، فقد كانت العادات تحتم عليها ألا تظهر إلاّ في آخر المأدبة مشهرة بيدها كأس الزواج لتهديه للرجل الذي اختارته زوجاً لها. ولما استحال وجود امرأة بلا فضول وبلا حبّ اطلاع، علينا أن نفترض أنّ بيتا قد اختلست النظر إلى المأدبة حتى تقرّر في النهاية اختيار الرجل الأجدر بحبها والأكثر وسامة من بين المدعوين ومن ثم الأجدر بأن يكون زوجها، إنّ الطريقة التي انتهى بها الحفل تؤكّد هذه الفرضية فعندما بانت ''بيتا'' لم تهد الكأس التي كانت تشهرها إلى شاب سيكوبريجي من أبناء جلدتها وإنما أهدته إلى زعيم الغرباء، إلى أوكسان الفوساياني الذي كان في زيارة لتلك البلاد لأوّل مرة في حياته، ولم يلبث أن أثار ذلك الاختيار غير المنتظر أقاويل غليظة تهامس بها المرشّحون السابقون، ولكن الشابة الغالية تمسّكت بحقها الذي تحميه الآلهة، رغم أنّ القوانين تعاقب عليه. احترم الأب قرار ابنته فما كان من المرشحين الخاسرين إلاّ أن امتثلوا له، وهكذا تزوّجت بيتا أوكسان فسماها ارستوكسان ومعناها في الإغريقية ''أكثر الضيفات رشاقة''، ثم استقر بصورة نهائية في أفضل ولايات والده، وهكذا أسّست مدينة ماسالي نزولاً عند رغبة شابة كانت متعجلة نوعاً ما في اتخاذ قرارها. ومن القصص الطريفة ما يحكيه عن تجرأ أرسطو على إنكار حب ألكسندرا ''الحسناء الهندية'' فأقسمت أن تنتقم منه لتنكّره لحبها، ''نزلت إلى الحديقة في زيّ شفّاف وخفيف، كان المناخ الحار قد سوّغ لباسه، شاهدها أرسطو وهي تقطف الزهور وسمعها تنشد أغاني غاية في الإغراء، فتن بها واختلجت جميع حواسه، فاهتاج ونزل إلى الحديقة يبحث وينظر ثم أطلق زفرة، وبعد أن أنكر على ملكه جنونه حسده على نعيمه، اقتربت الهندية وسمعت تنهداته، وما باح به ولكنها لم توافق على الإصغاء إليه إلاّ بشرط أن ينحني على قوائمه الأربع وأن يوضع على ظهره سرج وحول رأسه لجام وأن يجعلها تركبه كما لو كان دابة ذلولا، لقد أضاع الفيلسوف فلسفته وانصاع، وهكذا سعدت الحسناء بأن عرضت على الملك وأعوانه المشدودين إلى فرادة المشهد، الفيلسوف عدو المرأة ساعيا إلى اللذة الحسية وقد مسخ دابة وحتم المثل الفلسفي بالقول : ''حقا إن الحب يولد سريعا وينتصر سريعا على مدى الوجود''. ويكشف مونكو عن أنّ الحب فن أكثر منه فلسفة، بحثه قليل وتحليله محدود، إنّه نظرة فإعجاب فهيام، ويقول ''على الرغم من أنّ الحب طرد ولوحق من جهات عدّة فهو لم يمت، بل بالعكس عظمت قاعدته ونمت، إنّه النار المقدّسة التي عليها أن تنير خطى الحضارة''. ينقسم كتاب ''تاريخ الحب'' 369 صفحة من القطع الكبير، طبعة أولى 2010 إلى أربعة أقسام بخلاف قائمة المصطلحات والضمائم البالغ عددها أربعة، القسم الأول ''الحب لدى الغاليين والمسيحيين''، والثاني ''الحب في ظل غزو البرابرة''، والثالث ''الحب في ظل الشعراء الجوالين: التروبادور والتروفار''، وأخيرا القسم الرابع ''الحب منذ عصر النهضة''، وتندرج تحت هذه الأقسام الكثير من العناوين التفصيلية الفرعية