''تعب القلب بعد ثلاثين عاما من الحب'' ! هذه الكلمات قالها الشاعر نزار قباني وهو يخرج من غرفة الإنعاش بعد أن أجريت له عملية على القلب في مطلع السبعينات من القرن الماضي. وقد ظن البعض يومها أن قباني لن يعود إلى سابق علاقته بالشعر وبدنيا المرأة، لكنه تمرد على أطبائه وقلبه، ومضى في طريق الإبداع. وبعد فترة وجيزة، تعين عليه أن يصمد في وجه الموت بعد وفاة ابنه في حادث سيارة، وقاوم، وما أعظمها من مقاومة! ولكأننا بمفعول الشعر والحب يعيده إلى جادة الحياة. ومرت السنوات تترى، وإذا بقلبه يتلقى ضربة أعنف من السابقتين. فلقد انتقلت زوجته بلقيس إلى رحمة الله على إثر انفجار داخل السفارة العراقية في بيروت، وتناثر جسدها أشلاء كغيره من أجساد الموظفين والذين اختلفوا إلى مقر السفارة في ذلك اليوم المفجع. وبكى نزار قباني، فذكر عاشقيه وقراءه بالشاعر الأسطورة قيس بن الملوح، وكان بكاؤه شعرا بطبيعة الحال، فالشعراء الأصلاء لا يذرفون دمعا، بل يطرزون كلاما يبقى على مر الزمن. وبكى قباني في الوقت نفسه أمة العرب، هذه الأمة ''التي تقتل النساء والكلام الجميل، وتسكن تحت الخيام، وتنفق بسخاء عجيب ما تدره عليها آبارها البترولية''. قرأت مرثية نزار قباني في زوجته بلقيس، مكتوبة بخط يده، ومصورة في مجلة بيروتية قبل ثلاثين عاما. وهاأنذا اليوم أسمعها وهو يلقيها بصوته، فلا أشعر بأدنى تغير في الشحنة الوجدانية التي عرفتها منذ سنوات طويلة حيالها. لم يستنزل نزار قباني شآبيب المطر في هذه القصيدة، ذلك لأنه سبق له أن جعل الشعر أمرا طبيعيا في حياته وفي حياة الإنسان العربي، أي إنه اهتم بالأشياء اليومية الصغيرة، وصاغها شعرا بعد أن كنا نمر عليها مرور الكرام: الكرسي، منفضة السجائر، أحمر الشفاه، المناديل، التنانير، قصة الشعر الغلامية إلى غيرها من الأمور التي قد تبدو لنا غير ذات قيمة على الصعيد الشعري. لكنه حين بكى حبيبته وزوجته بلقيس لم يجد بدا من أن يدرج أمة العرب كلها في خانة واحدة متهما إياها بأنها نفذت جريمة القتل في صاحبته. ومن عادة نزار قباني الشعرية أن يجعل المرأة جوادا يمتطي متنه لكي ينظر في القضايا العربية، غير أن الدفق الشعري هذه المرة دفع به إلى أن يقذف بحممه كلها في وجه هذه الأمة التي اضطهدها حكامها مشرقا ومغربا، ونسي أن المجرمين أناس قلائل يرفعون رؤوسهم بين الفينة والأخرى، كالثعابين، ويلدغون هذا أو هذه دون أي اعتبار آخر اللهم سوى الإضرار بالخلق. وميزة نزار قباني تظل كامنة في سماحة صدره بالرغم من جميع الفجائع التي عرفها خلال حياته، وليس أدل على ذلك من أنه تغنى بأطفال الحجارة بعد ذلك، ونظم العديد من الدرر الشعرية من مثل ''قارئة الفنجان'' و''رسالة من تحت الماء'' وغيرهما.