لم يعد الزواج في وقتنا الراهن ارتباطا يمكن إتمامه بسهولة، وذلك لأسباب عدة ليس أقلها توفر الإمكانيات المادية، فقد فرضت التغيرات التي نعيشها معطيات جديدة أفرزت واقعا جديدا، من أهم مظاهره منح حق الاختيار للمرأة في قبول أو رفض الزواج، لاسيما وأن استكمال الدراسة والوصول إلى درجات عليا من التعلم والرقي في المسار المهني لم يعد مطلبا للمرأة فقط، بل حتى لعائلتها. لكن المختصين يجمعون على أن العزوبية أصبحت مشكلا يطرح على عدة مستويات، اجتماعية واقتصادية وحتى صحية. ولتسليط مزيد من الضوء على الظاهرة اخترنا أن نأخذ آراء عينات من نساء فضلن العزوبية إلى حين، ورغم تقدم السن بهن إلا أنهن مصرات على أن لا يكون زواجهن مجرد زواج لإرضاء الاخرين، ولكن زواجا يستجيب لمتطلبات التكافؤ والاحترام بين الطرفين ويسعى لتحقيق الهدف السامي من الزواج. "سهام. ص'' في السابعة والثلاثين من العمر تعمل في شركة للإعلام الآلي، ابتعدت عن تخصصها الجامعي وهو الهندسة المعمارية لأسباب مهنية، وهي الآن مستقرة في تخصصها الجديد الذي تقول إنه يجعلها تشعر بأنها تعيش ''روح العصر''، اشترت سيارة بمساعدة والدها، رغم ذلك فهي تعيش استقلالية نسبية، فعدم زواجها يجعل من والدها مراقبا شديدا لتحركاتها، دون أن يخفي بعض التذمر من وضعها. تقول ''هناك ضغوط عائلية مستمرة عليّ بسبب عدم زواجي، لاسيما وأن أختي وإخوتي الاصغر مني كلهم تزوجوا، لا أدري في الحقيقة ما أفعله، ولكن عدم زواجي ليس عزوفا عن الزواج، ولكن فعلا لم التق بعد الرجل المناسب... فأنا لست من النوع الذي يقيم علاقات مع الطرف الآخر، وأعترف أنني لا أجد سهولة في إقامة مثل هذه العلاقات، ربما لأنني مستقلة من الناحية الفكرية ولا أتقبل الكثير من العقليات الرجعية التي تمس المرأة، وهذا ما يجعلني أضع حدودا بيني وبين الرجل، بالرغم من التوتر الناتج عن قلق والدي على مستقبلي، لأنهما لا يتقبلان الأمر بتاتا''. أما وداد التي تكمل عامها الثامن والثلاثين هذه السنة فإنها تعترف بصعوبة إيجاد الرجل المناسب كلما طالت مدة العزوبية، وتقول إن أغلب فرص الزواج التي تأتيها حاليا لاتستجيب لمقياس التكافؤ، سواء من حيث المستوى التعليمي أو السن.. وداد وهي أستاذة في اللغة الإنجليزية تتذكر حكايتها مع صديقة التقتها مؤخرا، ترويها لنا وهي تضحك، تقول ''التقيت مؤخرا مع صديقة كانت تدرس معي، فسألتها عن أحوالها فقالت إنها تطلقت للمرة الثانية وتستعد للزواج الثالث! استغربت للأمر فعلا، ثم سألتني عن أحوالي فأخبرتها أنني لم أتزوج بعد، فاستغربت كثيرا لحالي وقالت لي: لماذا؟ فلم أجد ما أجيبها به، وفي الحقيقة أنا استغربت من زيجاتها المتكررة، وهي استغربت من عدم زواجي... ولكل أسبابه ودوافعه''. وتجمع الكثير من الآراء التي استقيناها من محدثاتنا على أن عدم الزواج لا يعني بأي حال من الأحوال رفض فكرة الزواج، ويؤكدن أنه ما من امرأة تفضل الوحدة، ولكن الأمر يتعلق بالبحث عن الشريك المناسب وهذا أبسط الحقوق - كما يشرن - ويعترفن بوجود احتكاكات في الرؤى والآراء بين الرجل والمرأة بفعل التقدم الذي أحرزته المرأة من الناحية الدراسية والمهنية، وهو ما يطرح إشكالا في طاولة الحوار بينهما. فالمرأة الجزائرية في وقتنا الراهن لم يعد شغلها الشاغل هو الزواج، ولم تعد ترى فيه مصيرها المحتوم، بعد أن فتحت أمامها آفاق أخرى، جعلت طموحها أكبر من أداء الزوجة والأم دون أن تنقص من أهمية الدورين كما يعتقد الطرف الآخر، وهو الجدل الذي يعكر صفو الكثير من العلاقات. في هذا الاتجاه ردت علينا (منى. م) عندما سألناها عن سبب عدم زواجها وهي في الأربعين من العمر بمجموعة من الأسئلة قائلة: ''هل يوجد رجل يصدق امرأة في الأربعين نجحت إلى حدّ ما في حياتها المهنية ولم تتزوج؟ من يصدق هذه المرأة دون أن ينظر إليها بتهمة أو شبهة، أو يحملها بكمية تجارب عاطفية لا تعد ولا تحصى؟ المرأة في سن متقدمة لا تصلح لدى أغلب رجال اليوم اجتماعيا كزوجة، بل يرونها كعشيقة لاسيما إذا كانت لديها مكانة اجتماعية وجميلة، ثم إن الرجل في وقتنا الراهن أصبح يخشى المرأة المستقلة ويعتبرها خطرا على أمنه العاطفي، ولا يستطيع أن يدربها أو يعجنها على طريقته كما يقولون. إذاً كيف يأتي التكافؤ إذا كان الرجل محملا بأحكام وأفكار مسبقة عن المرأة تحد من فرص الحوار والتشاور التي تعد أساس بناء أسرة متكاملة ومستقرة؟'' وإذا كان للعزوبية أسباب شخصية واجتماعية فإن تأثيراتها تتعدى ذلك، وهو ما جعل السيدة نصيرة كداد رئيسة المجلس الوطني للأسرة والمرأة ومديرة السكان بوزارة الصحة تقر في حديث معنا أن ''هناك مشكلا حقيقيا في الجزائر وهو العزوبية لدى النساء''، ورغم أن السيدة كداد تعمم الظاهرة لتشمل الرجال كذلك، لأنها تعتبر أن العزوبية هي في الحقيقة مشكلة مزودجة وليست في اتجاه واحد إلا أنها ترى أن المرأة أكثر تأثرا بها بالنظر إلى عوامل اجتماعية وصحية. وتوضح بالقول ''إن الحديث عن العزوبية هو حديث عن تأخر سن الزواج في الجزائر الذي لاحظناه في السنوات الأخيرة من خلال الإحصائيات المتوفرة لدينا، وهذا التأخر ناتج عن جملة من الأسباب، منها النسبة الكبيرة من الفتيات اللواتي يلتحقن بالمدرسة ويواصلن تعليمهن العالي، وبالتالي لديهن أهداف أخرى غير الزواج، والعزوبية الآن أصبحت مشكلة اجتماعية كبيرة في الجزائر سواء للمرأة أو الرجل، ولكن المرأة تعاني أكثر''. وتشير محدثتنا إلى جملة من العوامل التي تجعل من عزوبية المرأة والتأخر في زواجها مشكلا حقيقيا من أهمها ''تعرضها لتمييز داخل الأسرة وكذا في المجتمع، لا سيما في الأوساط الرجعية التي ترى في المرأة غير المتزوجة مجرد عانس حتى لو كانت متعلمة ولها منصب مهم، كما أن هناك إمكانية تعرض المرأة للعنف بكافة أشكاله سواء داخل الأسرة أو في الشارع أو في الحي أو في العمل''. وتعرض علينا بعض الأرقام التي توضح أن هناك تناميا كبيرا لظاهرة تأخر سن الزواج في الفئة ما بين 20 و45 سنة، كما أن نسبة العزوبية النهائية التي تتعلق بالفئة ما بين 45 و59 سنة - التي تخص النساء اللواتي وصلن إلى سن اليأس- انتقلت من 03 بالمائة في 1998 الى 6 بالمائة في ''2010 وهو ما يعني أنها تضاعفت'' كما أوضحت. وتشير الأرقام كذلك إلى أن معدل سن الزواج وصل حاليا إلى 31 سنة بالنسبة للمرأة و33 سنة بالنسبة للرجل، وهي النسبة المسجلة حتى في الأرياف عكس ما يعتقده البعض. وتلفت محدثتنا الانتباه إلى أن النساء لديهن فرص أقل من الرجال للزواج بعد سن الخامسة والثلاثين، بالنظر إلى أن أغلب الرجال يفضلون الارتباط بفتيات أقل عمرا.. لذا تؤكد أن العزوبية مشكلة حقيقية ''فهذا الواقع قد يدفع المرأة إلى قبول الزواج غير المتكافئ سواء برجل يكبرها سنا بكثير، أو القبول بفكرة الزوجة الثانية''، كما تضيف. كما تلاحظ أن المشكل يطرح بالنسبة للمرأة من الناحية الصحية، لأن للمرأة سنا محددة تسمح لها بالانجاب، ولهذا فإن تأخرها في الزواج قد يرهن أمومتها إلى الأبد، وحتى وإن كانت قادرة على الإنجاب فإن المعروف أن المرأة تواجه صعوبات وتعقيدات صحية كثيرة عند الإنجاب بعد سن الخامسة والثلاثين، وهو ما يفسر - كما تشير - ارتفاع عدد الولادات القيصرية التي يتم اللجوء إليها عند استشعار أي خطر على صحة المرأة أو الجنين. كما يفسر ارتفاع عدد الوفيات عند الولادة بالجزائر مقارنة بالمعدل العالمي. ولا يمكن هنا حصر كل جوانب هذه الظاهرة، لأن هذه المسألة بالذات تثير الكثير من التضارب في الآراء، إلا أن المؤكد هو أن الزواج لم يعد ''اتجاها أو توماتيكيا'' لكل النساء في غياب الرجل المناسب.