ألقى رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة، أمس السبت، بدمشق كلمة خلال الجلسة العلنية للدورة العادية العشرين لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة هذا نصها الكامل: "بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين فخامة الرئيس وأخي العزيز أصحاب الجلالة والسمو والفخامة والدولة معالي الأمين العام لجامعة الدول العربية أصحاب المعالي والسعادة حضرات السيدات والسادة يسعدني في مستهل كلمتي أن أتوجه إلى أخي فخامة الرئيس بشار الأسد والى الشعب السوري الشقيق بخالص شكرنا وعميق امتناننا على ما حظينا به من حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة منذ أن حللنا بين أهلينا وذوينا في هذه الأرض المعطاء مهد التاريخ والحضارة· ولا يفوتني في هذا المقام أن أتوجه إلى أخي خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك عبد الله بن عبد العزيز، بجزيل الشكر والعرفان على المجهودات الكبيرة والمخلصة التي بذلها طيلة سنة كاملة في قيادة ورعاية عملنا العربي المشترك والتكفل بقضايا أمتنا العربية والذود عن مصالحها في ظل استفحال الأوضاع في منطقتنا العربية· أصحاب الجلالة والسمو والفخامة والدولة إننا نجتمع اليوم وعالمنا العربي يمر بأوضاع وظروف بالغة الخطورة لا قبل له بها، ظروف تبعث شعور التوجس من المستقبل جراء إستمرار حالة اللاأمن وعدم الاستقرار في العديد من مناطقه، بحيث تحولت الى ساحة مفتوحة لمختلف النزاعات والصراعات والتدخلات الخارجية بما يتسبب في تعطيل الجهود المبذولة في سبيل تحسين أوضاع شعوبنا في شتى المجالات· إن الظروف الإقليمية والدولية الراهنة بتفاعلاتها السلبية تنعكس علينا الى حد التهميش والإقصاء، بل والمهانة، من خلال مسارعة تكتلات وتحالفات استراتيجية للاستحواذ على سلطة القرار في بلورة عالم اليوم ورسم معالمه وآلياته خدمة لمصالحها الذاتية وتعزيزا لقوتها، دون إعارة الاعتبار لا للضعفاء ولا للمتخلفين عن الركب· لكن هذه الحقيقة مهما كانت مرة، لن تثني عزيمتنا ولن تنال من إصرارنا على تسخير قدراتنا للنهوض باقتصادياتنا وتحقيق التنمية الشاملة في منطقتنا الزاخرة بكل الإمكانيات والمؤهلات والارتقاء بمجتمعاتنا الى مراقي التقدم والنماء وفق أنماط تصون قيمنا وهويتنا، علما أن الأمر هذا لن يتأتى إلا ببناء الفضاء العربي المتجانس والمتكامل الذي به يتسنى لنا الانخراط المتكافئ في المنظومة الشاملة للعولمة وفرض أنفسنا كطرف يحسب له حساب في العالم· من هنا تبرز ضرورة وأهمية إصلاح ذات البين وتغليب ما يجمعنا على سائر الاعتبارات الأخرى· فذلك قمين بأن يعزز علاقاتنا الأخوية وبأن يجعل من تضامن وتآزر بلداننا وشعوبنا أمرا ملموسا لمس اليد وسيمكننا من مواصلة مسيرة الإصلاح والتطوير التي خضناها خلال السنوات الماضية لإنجاز أهدافنا في التنمية المستدامة وبناء مجتمعات متطورة· إن الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي اعتمدناها في بلداننا، كل حسب ظروفه قد أفضت الى خلق واقع سياسي جديد يتسم بتوسيع رقعة المشاركة السياسية وبتكريس التعددية الحزبية وحرية التعبير وتجذير المسار الديمقراطي وفسح المجال أمام المجتمع المدني لكي يصبح قوة اقتراح ورافدا لجهود الدولة والنهوض بأوضاع المرأة والشباب وترقية حقوق الإنسان· إن هذه الإصلاحات قد آتت أكلها حيث مضت بلداننا قدما وقطعت أشواطا هامة على درب التنمية والتطور· لكن الجهود هذه جهود كل بلد على حدة لا تجدي نفعا في عالم التكتلات· ومن ثمة يتعين علينا تعزيزها بتنسيق الجهد والسعي الجاد حتى نصبح كتلة واحدة اقتصاديا إن تعذر تحقيق ذلك سياسيا· ولنا في التجمعات الاقتصادية الناجحة في العالم أسوة حسنة وعبرة مفادها أن توحيد الجهود اقتصاديا لا بد أن يفضي الى تماهي المصالح سياسيا· إن عقد أول قمة عربية اقتصادية وتنموية واجتماعية بدولة الكويت في شهر يناير 2009، ليشكل بهذا الصدد حدثا ذا بال ينبغي أن نعد العدة لإنجاحه· إن شعوبنا لتعلق على هذه القمة آمالا وطموحات عريضة وترجو لها التوفيق في وضع خطط وبرامج ومشاريع يكون لها عوائد مباشرة وملموسة على المواطن العربي وفي إرساء أسس ودعائم التكامل والاندماج في الوطن العربي· والجزائر لن تدخر جهدا للعمل ما وسعها العمل في سبيل إنجاحها· هذا، ويشكل جانب التعليم والبحث العلمي في الوطن العربي أحد الجوانب الهامة من عملنا العربي المشترك· وقد أكدنا في قمتنا بالخرطوم على وضع خطة دقيقة وقابلة للتنفيذ لتحديث وتطوير التعليم والبحث العلمي في وطننا العربي· وها هي ذي الخطة معروضة أمامنا بعد أن استوفت كل مراحل الدراسة والتدقيق والاعتماد من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي· إننا نباركها ونزكيها وسنعمل معا على إيجاد الآليات الضرورية لتجسيدها وفقا لتطلعنا كدول وكمجموعة إلى سلك دروب تحصيل العلوم الدقيقة واكتساب آخر التطورات والمستجدات العلمية التي تفتح لنا أبواب النهضة والحداثة وتؤهلنا لامتلاك أسباب المنعة والقوة، فضلا عن الإدلاء بدلونا في بناء الحضارة الإنسانية· أصحاب الجلالة والسمو والفخامة والدولة إننا ما فتئنا نؤكد بالنسبة لعملية السلام في الشرق الأوسط أن السلام هو خيارنا الاستراتيجي· وبرهنا كأمة عربية تواقة لتحقيقه على مدى جديتنا وصدقيتنا من خلال اعتمادنا مبادرة السلام العربية في قمة بيروت سنة 2002، المبادرة التي أكدتها القمم الموالية وفعلتها قمة الرياض مجددا· وما زلنا نؤمن بأنها الآلية المناسبة لإجراء المفاوضات الكفيلة بتحقيق السلام العادل والدائم والشامل في المنطقة· ويأبى عليّ الواجب في هذا المقام، إلا أن أجدد تنديد الجزائر بالجرائم الإسرائيلية النكراء في حق الشعب الفلسطيني الأعزل واستنكارها الشديد لها ولحرب الإبادة الهمجية التي يمارسها الجيش الإسرائيلي ضد إخواننا في قطاع غزة والتي يقلل مجلس الأمن من حجمها وخطورتها ويصفها بأنها استعمال غير متكافئ للقوة، الأمر الذي يعكس إخفاق هذا الجهاز المحوري في منظمة الأممالمتحدة في الحفاظ على الأمن والسلم وفي تنفيذ مبادئ العدل والقانون الدولي عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وما تقترفه من فظائع في حق الشعب الفلسطيني· لامناص من مراجعة الذات أمام هول وخطورة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية وخاصة في قطاع غزة· إننا نناشد الأخوة الفلسطينيين أن يجنحوا الى جادة الصواب ويعودوا الى الحوار من حيث هو النهج الوحيد الذي يوصلهم الى الحلول التوافقية حول ما يختلفون فيه ويتيح فوق ذلك إعادة اللحمة الى شعبهم في أرجاء فلسطين واسترجاع المبادرة في إدارة شؤونهم في ظل وحدة الصف والرؤية والقرار· إن الجانب العربي رغم المنهجية الجديدة للتعامل مع النزاع العربي - الإسرائيلي التي تم إطلاقها في مؤتمر أنابوليس لم يلمس الى حد الآن ما يدعو الى التفاؤل· لم تسفر الوعود المقدمة في المؤتمر المذكور عن أي شيء إيجابي بل تمادت إسرائيل وازدادت غطرسة وضربت عرض الحائط إرادة المجتمع الدولي وقرارات الشرعية الدولية· إن الحديث عن إقامة الدولة الفلسطينية في هذه السنة ما هو إلا تخدير وحفز لنا لتقديم المزيد من التنازلات إن بقي ما لم يقدم بهذا الشأن· إن العقاب الجماعي المحرم في أعراف القانون الدولي يفرض على المجتمع الدولي التحرك العاجل لتوفير الحماية للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع وكسر الحصار الجائر المفروض عليه ضمن مخطط مبيت للتجويع والإبادة· إن استمرار إسرائيل في تحديها المجتمع الدولي وإصرارها على عدم التجاوب مع مبادرة السلام العربية منذ إطلاقها يشكل موقفا ذا أبعاد خطيرة يتعين استخلاص العبر منه وتكييف الاستراتيجية العربية للسلام وفق ما يقتضيه الأمر· أما بالنسبة للعراق فإننا في غاية من القلق والانشغال بما يجري في هذا البلد الشقيق· ونحن نؤازر الشعب العراقي ونزكي الجهود المخلصة الهادفة إلى تمكين مؤسساته الدستورية من مباشرة نشاطها الطبيعي لوضع حد نهائي لمعاناته بإزالة الاحتلال وصون وحدته الترابية والحفاظ على سيادته الوطنية· إننا مقتنعون كل الاقتناع بأن مصير العراق وشعبه شأن يهم العراقيين دون سواهم· غير أننا ملتزمون بالوقوف إلى جانبه ومؤازرته في سعيه للخروج من محنته· ولا يسعني في هذا المقام إلاّ أن أجدد دعم الجزائر لجهود جامعة الدول العربية ودعوتنا إياها لاستئناف مؤتمر الوفاق الوطني العراقي في أقرب الآجال بمشاركة كافة الفعاليات والأطياف السياسية والمرجعيات والقيادات الدينية دون إقصاء بما يمكن العراق من لم شمل أبنائه ومن استئناف دوره العربي تعزيزا لقدرات أمتنا العربية وذودا عن مصالحها العليا في ظل المتغيرات والمستجدات الإقليمية والدولية المتعاقبة· أما فيما يتعلق بالأزمة اللبنانية فإننا نشيد بدور السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية وبجهوده الموصولة من أجل تجسيد خطة الجامعة العربية بين الفرقاء اللبنانيين من خلال تفعيل الحوار بينهم والحصول على التجاوب المطلوب بشأن الاستحقاق الرئاسي وتشكيل حكومة وحدة وطنية وسن قانون انتخابي جديد· ولنا قناعة راسخة بأنهم أهل لاستخلاص الدروس من تاريخهم الطويل والتغلب على المحنة الراهنة· وفيما يتعلق بأزمة دارفور فإننا نجدد تنويهنا بالجهود التي ما فتئ أخونا فخامة الرئيس عمر حسن البشير يبذلها لمعالجتها بالإسراع في نشر قوات مختلطة إفريقية أممية لحفظ السلام في هذه المنطقة· كما نشيد بالدور الحثيث الذي يقوم به الاتحاد الإفريقي الرامي إلى لمّ شمل الأشقاء والحفاظ على وحدة السودان على أساس العدل والمساواة بين كل أبنائه· أما فيما يخص الصومال الذي ما يزال يعاني من حرب أهلية مدمرة فإن الحل يكمن في الحوار وتحقيق المصالحة الوطنية بين كافة الأطراف المتنازعة· إنه السبيل الوحيد للوصول إلى توافق وطني بعيدا عن التدخلات الخارجية ومن ثمة إفاضة الأمن والاستقرار في هذا البلد الممزق· إن للمجتمع الدولي مسؤوليات جساما تلزمه مساعدة الصومال على استعادة استقراره وأمنه وسلامته الترابية ووحدة شعبه وبناء مؤسساته والشروع في تحقيق تنمية شاملة ومتوازنة تخفف من معاناة الشعب الصومالي الشقيق الذي ذاق الأمرين خلال العقدين الماضيين· أصحاب الجلالة والسمو والفخامة والدولة إن ظاهرة الإرهاب تشكل تحديا من أخطر التحديات التي تواجهها المجموعة الدولية من حيث إنها تتعلق بالسلم والأمن والاستقرار في العالم· إننا في الجزائر ما فتئنا ندعو إلى تعبئة متضامنة للمجموعة الدولية لمحاربة هذه الآفة التي لا تعرف الحدود وتدوس أقدس القيم الأخلاقية· لقد سجلنا بكل ارتياح تدارك الوعي الذي حصل في العالم أجمع غداة أحداث سبتمبر الوخيمة· ونحن على يقين من أن المسعى الجماعي الشامل والفعلي هو وحده الكفيل بقطع شأفة هذه الآفة المقيتة إلى غير رجعة· والمسعى هذا يجب أن يتحاشى إلصاق الإرهاب بالديانات والمقاومات التحريرية· وعلى صعيد آخر أود الإشارة إلى ما حدث في الآونة الأخيرة من تأجيج لصراع الثقافات ومساس بمقام الرسل والأنبياء· ولا تفوتني الدعوة إلى الدفع ما أمكن باتجاه موقف دولي مشترك حول صون القيم والمقدسات والحفاظ على مقام الرسل والأنبياء وإلى تكثيف حوار الحضارات والثقافات بما يسهم في إفاضة التفاهم وإشاعة الانسجام بين كافة شعوب العالم· وفيما يتعلق بنزع أسلحة الدمار الشامل في المنطقة فإن بلادي ترى أنه لابد أن تكون هذه العملية شاملة وكاملة وأن تتم تحت مراقبة دولية فعّالة· بل ويجدر في هذا الإطار التأكيد على جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل دون تمييز على ألا تغفل أحقية كل دولة في ممارسة حقها الشرعي والطبيعي في امتلاك التكنولوجيا النووية لأغراض سلمية وتنموية بحتة· أصحاب الجلالة والسمو والفخامة والدولة أصحاب المعالي والسعادة حضرات السيدات والسادة إننا نبارك تلك الروابط والجسور التي شرعنا بكل عزم وثبات في مدها من خلال الجامعة العربية مع مختلف التجمعات الإقليمية والدولية· ونسجل بهذا الشأن أن بناء شراكة حقيقية بين التجمعين العربي والإفريقي وإرساء علاقة استراتيجية بينهما تجسد من خلال العديد من المبادرات منها إنشاء المصرف العربي للتنمية في إفريقيا والصندوق العربي للمساعدة الفنية للدول الإفريقية· والأمل يحدونا على عقد القمة الثانية العربية الإفريقية قريبا للارتقاء بهذه العلاقات إلى مراتب أعلى· كما أشير بارتياح إلى مسارات الحوار والتعاون مع المجموعات الأخرى من مثل أمريكا الجنوبية ومن مثل أوروبا التي استأنفنا الحوار معها يوم 10 فبراير 2008 بمالطا فضلا عن الصين والهند واليابان وتركيا وهو ما يعكس تطلعنا كتجمع عربي لإرساء شراكات قوية وبعيدة المدى مع مختلف التجمعات والأقطاب في هذا العالم الذي نعمل جادين على أن يسوده الأمن والاستقرار والتعاون لبناء حضارة إنسانية يعم خيرها الجميع· ختاما أجدد باسمي وباسم الوفد المرافق لي لكم أخي الرئيس بشار الأسد، شكرنا الخالص على ما وفرتموه لنا من طيب الإقامة وكرم الضيافة ومن شروط النجاح لقمتنا هذه، متمنيا لكم السداد والتوفيق في النهوض بمسؤولية عملنا العربي المشترك لتحقيق ما نصبو إليه جميعا من استعادة حقوقنا وإجلاء الاحتلال عن أراضينا وتحقيق تطلعات شعوبنا إلى مستقبل يسوده الأمن والازدهار· سدد الله خطانا· إنه ولي التوفيق· والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته"·