يمكن الجزم اليوم أن الرئيس محمود عباس يخوض أعقد وأكبر امتحان دبلوماسي لم يسبق أن خاضه طيلة مسيرته السياسية الطويلة بعد أن تحدى الولاياتالمتحدة وراح يراهن على الأممالمتحدة من أجل الحصول على حلم كل الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة تكون رمزا لسيادة ضائعة وتخرجهم من وطأة استيطان لم يسبق له مثيل في تاريخ الإنسانية المعاصرة. والحقيقة أن محمود عباس عندما أصر على التوجه إلى الأممالمتحدة للحصول على اعتراف دولي بدولة فلسطينية، إنما فعل ذلك مكرها بعد أن ضاق ذرعا من تسويف أمريكي مقصود لتمديد مأساة الفلسطينيين خدمة للمصالح الإسرائيلية المقيتة. وهو ما يفسر رفضه لكل المساومات والضغوط التي مارستها عليه إسرائيل بوكالة أمريكية وأيضا من طرف إدارة أمريكية خضعت في النهاية لإملاءات اللوبي اليهودي المتغلغل في دوائر صنع القرار الأمريكية وزاد يقينه أن الأخذ بخيار التوجه إلى الأممالمتحدة يبقى الوسيلة الوحيدة لإسماع صوت الفلسطينيين ووضع الإدارة الأمريكية أمام أمر واقع لم تعهده في مواقف الفلسطينيين منذ قبولهم الدخول في متاهة مسار السلام. ويدرك الرئيس عباس وكل السلطة الفلسطينية منذ تبنيه لفكرة الذهاب إلى الأممالمتحدة أن المهمة لن تكون سهلة وتحقيق أدنى المكاسب ليس بالأمر الهين ولكنهم غامروا هذه المرة ليس بقناعة أنهم سيتمكنون من كسب هذا الرهان بعد أن هددهم الرئيس باراك أوباما من تبعات مسعاهم ولكن من أجل فضح مسار سلام قتل في مهده والقول عاليا إن مواصلة المراهنة عليه يبقى مجرد مضيعة للوقت يقابله هدر وتضييع لأدنى الحقوق الفلسطينية وما الوتيرة التي عرفها الاستيطان إلا أكبر دليل على هذه الحقيقة المرة. كما أن الرئيس الفلسطيني عندما أصر على موقفه كان يدرك درجة الإحراج التي ستجد الإدارة الأمريكية نفسها فيها وهي التي تسعى إلى تلميع صورة أمريكا أمام رأي عام عربي ومسلم ما انفكت قناعته تزداد بأن لا أمل في قوة عظمى انحازت صراحة إلى جانب عدو تاريخي وحضاري لا يريد في حقيقة الأمر سوى تكريس الفكر الصهيوني الساعي إلى إقامة دولة إسرائيل الكبرى ووجد في مفاوضات السلام الوهمية أفضل طريقة لتحقيق هذا الهدف الذي تؤمن به الغالبية الساحقة من اليهود سواء أولئك الذين استوطنوا في فلسطين التاريخية أو الذين يقدمون دعمهم المختلف أشكاله انطلاقا من الدول التي يقيمون فيها ضمن لوبيات لها كلمتها. وهو ما جعله يؤكد بمجرد نزوله بمدينة نيويورك أن ''الأمور ستكون أصعب بعد 23 سبتمبر'' في تلميح واضح باتجاه التحول الذي سيعرفه الموقف الأمريكي باتجاه الفلسطينيين بمجرد تقديمه طلب الانضمام إلى الأممالمتحدة، حتى ولو كان ذلك بشكل ملاحظ فقط. ورغم ذلك فقد كسرت السلطة الفلسطينية هذه المرة حاجز الخوف وقامرت بإشهاد المجموعة الدولية عبر الأممالمتحدة على أنها ضحية مساومات وضغوط إسرائيلية-أمريكية متواصلة لم تزد الفلسطينيين إلا خسارة وشكلت في النهاية ضغطا ولد هذا الانفجار، والمؤكد أن وقع هذا الانفجار وصل إلى البيت الأبيض الأمريكي وإسرائيل وهو ما يفسر ردود الفعل الأمريكية-الإسرائيلية التي تناغمت جميعها إقناع الرأي العام العالمي أن الفلسطينيين هم الذين أخلوا بتعهداتهم في مسار السلام مع أن العالم أجمع مقتنع أن الحقوق الفلسطينية والتماطل الحاصل في تجسيد بنود معاهدة السلام الفلسطينية-الإسرائيلية وعدم تحقيق أي مكسب لإحلال السلام هو الذي أوصل الوضع في منطقة الشرق الأوسط إلى مرحلة التعفن الحالية. وحتى وإن كان عباس يدرك جيدا أنه لن يحقق ما ذهب من أجله إلى نيويورك فإنه على الأقل يكون قد لعب آخر أوراقه على طاولة مفاوضات هو خاسر فيها سواء بالبقاء ملتزما بمسار السلام أو بالذهاب إلى الأممالمتحدة، إلا أن الخيار الثاني سيسمع الموقف الفلسطيني أكثر بدليل أن التحرك الفلسطيني أصبح الحدث الدولي البارز وغطى على أحداث عالمية لا تقل أهمية في حسابات الفاعلين الدوليين. ويكفي أن التحرك الفلسطيني أحرج الولاياتالمتحدة وإسرائيل وحتم على الوزير الأول الإسرائيلي بنيامين نتانياهو تناول الكلمة خلال أشغال الجمعية العامة الأممية على غير العادة ولكن هذه المرة للدفاع عن طروحات غير ذات مصداقية على اعتبار أن ما هو جار على أرض الواقع واضح للعيان ولا لبس فيه. كما أن الرئيس أوباما يوجد في وضع أكثر حرجا وهو يرى صورة الولاياتالمتحدة تزداد قتامة في أعين العرب والمسلمين وهو ما انفك يعمل من أجل إبداء مواقف أكثر تفهما للقضايا العربية ولكنه فشل فشلا ذريعا عندما تعلق الأمر باتخاذ موقف أكثر نزاهة من الصراع العربي-الإسرائيلي. ويكون الرئيس عباس قد استثمر في هذه الحقيقة لتوريط رئيس أمريكي لم يبق أمامه سوى عام واحد لخوض انتخابات رئاسية نتائجها غير مضمونة بدليل العقبات الداخلية التي يواجهها وعجزه عن حلها لحد الآن، ولكن الرئيس الفلسطيني مطالب في ظل هذه الحقائق بأن لا يتراجع تحت سيل الضغوط التي ما انفكت تمارس عليه من أجل عدم الإقدام على تسليم الاعتراف بدولة فلسطينية إلى بان كي مون الجمعة القادم.