نهاية مأساوية تلك التي انتهى إليها العقيد الليبي معمر القذافي ثمانية أشهر منذ أن خرجت أولى المسيرات الاحتجاجية ضد نظامه في مدينة بنغازي في أقصى الشرق قبل أن تتوسع رقعتها إلى كل مدن شمال البلاد وصولا إلى باب العزيزية والعودة إلى مسقط رأسه في مدينة سرت حيث لقي حتفه. وتوالت الأحداث في هذا البلد بشكل تصاعدي من مجرد تظاهرة احتجاجية محدودة العدد إلى أشبه بعصيان ثم ثورة شاملة رغم أن بوادرها لم تكن موجودة على الأرض بدليل أن القذافي نفسه عندما ثار الشارع التونسي ومن بعده المصري لم يكن يشعر بأدنى قلق على سلطته بل راح يدافع عن الرئيسين حسني مبارك ومن قبله زين العابدين بن علي في تصريحات متواترة أعطت الاعتقاد حينها أن ليبيا غير معنية بما يحدث في الجارتين الغربية والشرقية. ولكن ما إن ثارت مدن شرق البلاد وخرجت أولى رصاصات كتائب الجيش النظامي الليبي وسقط اول المتظاهرين حتى تغيرت المعطيات وتأكد أن الأمر ليس مجرد مسيرة سيتم إخمادها بالقوة أو باللين لا يهم ذلك، وكان اقتحام أولى الثكنات ومخافر الجيش والشرطة واستيلاء المتظاهرين على مخازن الأسلحة والذخيرة فيها بمثابة المنعرج في حرب أهلية لم يكن أي من المتتبعين يتوقعها في بلد يعد من أغنى بلدان إفريقيا والوطن العربي. وحتى عندما خرج الوضع عن دائرة السيطرة لم يكن النظام الليبي مهددا بالسقوط طيلة الاشهر الاولى من حرب اهلية غير معلنة إلى غاية تحرك فرنسا وبريطانيا وبدعم أمريكي واضح ودخولها خط المواجهة بدأتها بثقلها الدبلوماسي على مستوى مجلس الأمن الدولي الذي أصدريوم 17 مارس الماضي اللائحة 1973 التي أعطت الغطاء السياسي للتدخل العسكري بذريعة حماية المدنيين الليبيين. ولكنه دور ما لبث أن انحرف عن مهمته الأساسية عندما تحولت المياه الدولية قبالة الشواطئ الليبية إلى أشبه بقاعدة خلفية لإدارة أضخم عملية عسكرية بعد تلك التي عاشتها افغانستان والعراق وكان ذلك كافيا لتغليب كفة ميزان المواجهة لصالح عناصر المجلس الانتقالي على حساب جيش نظامي مدجج بأعتى الأسلحة لم تفهم إلى حد الآن السرعة التي تفكك بها وانهار أمام مدنيين لبسوا البزة العسكرية في سياق التصعيد العسكري لا غير. ولم يكن سقوط العاصمة الليبية طرابلس يوم 23 أوت الماضي إلا حدثا زاد في طرح هذا التساؤل حول لغز هذا الانهيار وأكد أيضا على الدور المحوري لطائرات دول حلف الناتو لأنه لم يكن أي من المتتبعين يتوقع أن تسقط هذه المدينة بتلك السرعة وفي وقت وجدت فيه المعارضة الليبية المسلحة صعوبات جمة في اقتحام مدن تقل عنها أهمية استراتيجية بعشرات المرات مثل الزاوية وزليتن ورأس لانوف ومصراتة. وكان ذلك المنعرج الأكبر في صيرورة تلك الأحداث الدامية والمدمرة للبنية التحتية للاقتصاد والمنشآت الليبية الضخمة وأصبحت معها نهاية القذافي أكثر من مؤكدة وان ذلك لم يكن سوى مسألة أيام فقط. والحقيقة أن الزيارة المفاجئة لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون منتصف الأسبوع الماضي إلى ليبيا تكون قد حسمت أمر العقيد الليبي الذي تكون أجهزة التنصت الأمريكية وجواسيسها قد حددوا مواقع ونقاط تحركه ولم يكن أمر قتله إلا مسألة بروتوكولية حتى وان حاول محمود جبريل الرقم الثاني في المجلس الوطني الانتقالي التمويه بأنه متواجد تحت حماية قبائل التوارق في أقصى الجنوب الليبي ربما من اجل التشويش على أنصاره وإعطائهم الضمان بأنهم في مأمن وان أمرهم لم ينكشف بعد إلى حين مباغتتهم. فلا يعقل أن يكشف مقاتلو المعارضة الليبية المسلحة بين عشية وضحاها مكان تواجده كما حاولوا الإيهام بذلك مباشرة بعد مقتله لولا أن الولاياتالمتحدة أكدت أن طائرة من دون طيار أمريكية هي التي حددت مكان تواجده وقصفت الموكب الذي كان ضمنه قبل أن تتدخل باريس من جهتها لتؤكد هي الأخرى أن نهاية القذافي كانت بفضل طائرة ميراج فرنسية قصفت رتله. ومهما كانت دوافع وحسابات كل طرف فإن نهاية القذافي لم تكن شبيهة بنفس نهاية الرئيسين بن علي وحسني مبارك وربما كان يفضل الموت على العيش في المنفى أو في السجن والملاحقات القضائية. وهو الذي أكد في كل مرة خاطب فيها أنصاره انه لن يقبل إلا بالموت نهاية وسلاح الكلاشنيكوف بين يديه وقد كان له ما أراد وبقناعة دفاعه عن بلده في وجه قوى استعمارية محتلة. ولكن السؤال الذي يجب أن يطرح هل كان لمقاتلي المجلس الانتقالي الذين عثروا عليه مصابا أن يقتلوه وكان بإمكانهم إسعافه والإبقاء عليه حيا إلى غاية محاكمته أم أن أوامر فوقية رأت غير ذلك حتى يحمل أسراره إلى قبره الذي سيكون منسيا كما تم تسريبه من أخبار حول دفنه في مكان مجهول. ولكن هل كان لقائد ثوري أن يعرف مثل هذه النهاية وان تندثر عائلته وكل من ساير نظامه طيلة عقود وكان بإمكانه أن يموت مبجلا لو انه قاد شعبه في كنف الديمقراطية والحرية وما كنا اليوم نطرح التساؤل تلو الآخر عن الناتو ونواياه في إحدى أغنى الدول العربية؟ وهو سؤال يدفع إلى طرح تساؤل آخر حول ملامح ليبيا الجديدة وهل تتمكن سلطاتها الجديدة من قيادتها إلى بر الأمان والديمقراطية التي وعدوا بها أم أن لحمة ثمانية أشهر لن تلبث أن يتقطع رباطها بعد أن تشتد مصالح الأطياف والحساسيات التي شكلت المجلس الانتقالي ونقع في المخاوف التي وضعتها دراسات استشرافية لليبيا ما بعد القذافي؟