يزعم الكاتب الفرنسي ميشال بيتورMichel Butor في أحد أحاديثه الأدبية أن الكتاب الورقي قد يندثر وأن الكتاب الرقمي سيخلفه. ونحن عندما نطالع تصريحات الأدباء وغيرهم من الذين تعاملوا زمنا طويلا مع الكلمة المكتوبة نفاجأ بمثل هذه الأحكام التي قد توصف بالعشوائية وبأنها وليدة الانبهار بالرقميات وبإنجازاتها بصورة عامة. شخصيا، أزعم بدوري أن الكتاب الورقي سوف يبقى طالما ظلت الشمس تشرق وتغرب، فهو لصيق بالإنسان، وبتاريخه منذ أن وجدت الكتابة. بل إنه ينطوي على بعد ديني، فالقرآن الكريم يشير إلى السجل المكتوب، وما هو مكتوب ليس بالضرورة ذلك الذي يتحول إلى أرقام وأصفار، حتى وإن تحولت الكتب إلى مثل هذه الأرقام. قرأت الكثير من الكتب في حياتي، وباللغات الثلاث، العربية والفرنسية والإنجليزية، وقرأت أيضا العديد من الكتب الرقمية على صفحات الإنترنت والشاشة الإلكترونية، لكن اللذة التي وجدتها في الكتاب الورقي لا تعادلها لذة أخرى، الكتاب الورقي يدفعني على التفكير المنطقي، ويستحثني على الأناة في التفكير وفي المراجعة، في حين أن الكتاب الرقمي هو ليس كذلك. للكتاب الورقي ميزات أخر مرتبطة بالوجدان الإنساني، بالأحاسيس الجميلة وبالحضارة عموما، في حين أن الكتاب الرقمي أشبه ما يكون بالطعام الذي تعده ربة البيت في القدر المضغوطة على الرغم من أننا في حاجة إليه في هذا الزمن الذي تسارع فيه كل شيء. أذكر في هذا السياق الكاتب الفرنسي جان جيونو المعروف برواياته عن منطقة البروفانس، جنوبي فرنسا. فلقد سعى في مطالع الثلاثينات من القرن الفائت إلى ابتياع أكثر من ثلاثمائة ريشة لقلمه السيال بعد أن بلغه أن قلم ''البيك'' قد يكتسح دنيا الكتابة ويضع جميع أدوات الكتابة السابقة في المتحف، لكنني لم أفعل نفس الشيء بالرغم من أنني مولع بكل ما يأتي من جديد على صفحات الانترنت، خاصة في مضمار المطبوعات الأدبية. والسؤال الذي أطرحه على نفسي في هذا السياق هو التالي: أترانا سنكون قادرين على مسايرة العصر في مضمار القراءة والكتابة، وفي مضمار الكتاب الإلكتروني على وجه التحديد؟ أم إننا سنظل نتأرجح بين الكتاب الورقي والكتاب الرقمي بسبب ما تراكم في نفوسنا من مشاعر حيال كل ما هو مكتوب؟ نحن نقف اليوم على مشارف مرحلة فكرية كاسحة، ولذلك يتعين علينا أن نشرع في التفكير فيها بصورة جدية حتى لا نجد أنفسنا مفصولين عن الواقع الذي نعيشه في أيامنا هذه. نحن لم نشارك في صنع الطائرة والصاروخ العابر للقارات ولا في صنع المركبات التي تنطلق نحو الكواكب لأنناكنا نعيش ظروفا تاريخية صعبة، ولكن، الآن وقد تحررنا من ربقة الاستعمار الغربي، أليس يجدر بنا أن نفكر في مستقبل الكتاب الورقي والرقمي معا؟ بل، وكيف نفعل بمئات الآلاف من المخطوطات التي تنام في كل مكان من هذا العالم العربي الإسلامي؟ هل ننصرف عنها ونبحر في محيط الرقميات دون مراعاة لتاريخنا الحضاري كله؟