قضى السيد يوسف نمشي أغلب سنين عمره في ورشة صناعة الحلي الفضية، ويرفض أن يتوقف عن العطاء رغم متاعب السن ومتاعب هذه الحرفة التي يتخوف من انقراضها، نظرا للأوضاع الراهنة التي تنذر بالعزوف عنها، لاسيما من طرف الشباب، ويعطي مثلا بإبنه الذي اعتذر منه لتسلم مشعل أجداده، عندما رأى بأم عينيه أن هذه الحرفة لامستقبل لها. عندما توجهنا إلى محل العم يوسف بغابة الأقواس في رياض الفتح، وجدناه غارقا في صنع حلي جديدة، استقبلنا بإبتسامة عريضة؛ فالزوار هنا قليلون والمكان هادئ جدا، لذا فإنه يجد الوقت الكافي لصنع حليه، وعندما بدأنا الحديث معه، بادرنا بإخراج ألبوم صور، أطلعنا من خلاله على صورة أول قطعة صنعها جده ''مسعود'' عام 1894 في آث يني بتيزي وزو وهي عبارة عن بروش بربري مزخرف بالألوان، وكذا صور والده في ورشته وصوره وهو طفل يساعد أباه في تصميم الحلي التي تمتاز بها المنطقة. وبعد أن قدم لنا أجمل أعماله المعلقة بمحله وغير المخصصة للبيع، كما شدد عليه، دعانا للجلوس ليروي لنا قصة حرفة قال إنها تنتقل عبر الأجيال، ''مايمكنني قوله هو أن هذه الحرفة انتقلت في عائلتنا من الأب للإبن وأول قطعة صنعها جدي مسعود عام 1894 وكانت عبارة عن بروش، ثم انتقلت الصنعة إلى أبي وبعدها إلي، كان هناك حب للمهنة.. وبالحب انتقلت بيننا لم يكن الأمر أبدا تجاريا..؛ ففي تلك الأزمان كان الجميع يعملون في فلاحة الأرض، لكن قسوة الأحوال الجوية في الشتاء مع سقوط الثلوج التي تضطرهم لالتزام البيت مدة تتراوح بين 15 و20 يوما، كانت فرصة لهم لاستغلال الوقت في صناعة الحلي كهواية فقط، حينها كانت تتم صناعة القطع حسب الطلب، لاسيما للمقبلات على الزواج. ومع الوقت تغيرت الأمور وتعلم آخرون الحرفة؛ فأصبحت تجارية. لكن؛ استطعنا مع ذلك الحفاظ على تقاليدنا''. ويتذكر محدثنا أنه توقف عن الدراسة في سن ال 12 سنة ليتفرغ لحرفة الأجداد، ويشير إلى أن ما ميز تلك الفترة هو الطريقة اللينة التي يجلب بها الآباء أبناءهم لتعلم الحرفة، التي كانت تبدو لهم وكأنها لعبة مسلية، ويضيف قائلا ''أتذكر أنه بمجرد شروعي في تعلم الحرفة وصناعة أولى القطع، بدأت أفكر في إحداث تغييرات على الشكل لكن دون أن أمس روحها وهويتها الأصلية، ولما كبرت بدأت فعلا بالتغيير وصنعت قطعا جديدة أحيانا كان أبي يفرح بها وأحيانا أخرى يرفض إبداعاتي، لكن رؤيتي كانت بعيدة المدى...، كنت أعرف أن الأذواق مختلفة وإذا أردنا أن نجلب الزبائن علينا أن نبدع، لكن مع الحفاظ على أصالتنا''. ويشدد السيد نمشي على أهمية الحفاظ على هوية الحلي الجزائرية، حتى لو أضفيت عليها بعض الرتوشات أو التعديلات، ويتأسف لانتشار ظاهرة استيراد الحلي من بلدان أخرى وكذا استيراد آلات لصناعتها لاتمت بأية صلة للطابع الجزائري، وهو ما أفقدها أصالتها، لذا يصر على مواصلة مشوار الأجداد والاكتفاء بيديه كآلة وحيدة لإخراج تحفه الفضية للنور. ويشرح العم يوسف أن حلي منطقة آث يني لها طابع خاص وميزتها أنها تصنع باليد فقط، وتجسد أشكالا وألوانا نابعة من طبيعة المنطقة ومن تراثها؛ فإحدى القطع مثلا بها شكلا مستوحى من زربية المنطقة، وهو ما لايدركه إلا القليلون. وأقرب قطعة إلى قلب السيد نمشي تلك التي يعرضها داخل لوحة في محله، ويحكي عنها بكل افتخار وزهو بنفسه، لأنه تمكن عبرها من تأكيد أهمية الابداع الذي لايخرج عن الأصالة ولايمس بهوية الحلي.. إنه عقد من الحجم الكبير، من يراه يظن أنه قطعة هاربة من زمن غابر، لكن الحقيقة هي أنها حلم راود محدثنا وأصر على أن يحققه رغم تشكيك المحيطين به بقدرته على ذلك، يقول ''لقد قضيت تسعة أشهر لأنجز هذه القطعة الفريدة من نوعها، قيل لي إنه من المستحيل أن أصنعها، لكنني ثابرت وصبرت وكنت أخصص لها يوميا حوالي ساعتين من العمل ورويدا رويدا جمعت كل القطع الجزئية لأنجز هذه التحفة التي تدهش كل من يراها وأصر على القول إنها ليست للبيع لكل من يريدها، إنها قطعة عزيزة علي وهي مفخرة ولم أنجزها بدافع تجاري وإنما كان الأمر عبارة عن تحد''، ومن نفس المنطلق أنجز ساعة مميزة في خلفيتها بروش فضي، لايمكن أن يخطئ أي أحد في كونها جزائرية مائة بالمائة وهو المطلوب من صانعي الحلي، كما يشير. ورغم الصعوبات التي تعترض صناعة الحلي التقليدية الفضية في الجزائر وأهمها غلاء سعر الفضة وكذا الانقطاع التام للتزود بالمرجان، إضافة إلى قلة الزبائن، لاسيما في قرية الحرف بغابة الأقواس؛ فإن العم يوسف يصر على عدم تغيير صنعته أو التخلي عنها، بل وأصر أن ينقلها إلى ابنه الشاب الذي تمكن بالفعل من إتقانها، لكنه فضل أن يبحث عن لقمة عيشه في مكان آخر، يقول محدثنا ''ابني قال لي إنه لايوجد مستقبل في هذه الحرفة، لكنني شددت عليه بضرورة تعلمها حتى وإن لم يستمر في العمل بها وقد فاجأني بقدرته على إتقانها، حيث صنع دبوسا مزخرفا رائعا وبإتقان كبير، لكن قلة الزبائن أدخلت اليأس في قلبه فقرر أن يغير حرفته''. ويتمنى السيد يوسف نمشي أن تتحسن الأمور ببلادنا وأن تعطى الأهمية اللازمة لهذه الحرف التي تعد جزءا من هويتنا حتى لاتنقرض، أو ينسبها الآخرون إليهم؛ فتسلب من التراث الجزائري، كما يحذر من فقدان هذه الحرفة لميزتها وطابعها الخاص، معتبرا أن الابداع شيء والقضاء على الأصالة شيء آخر.