وجه رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة رسالة بمناسبة الذكرى الخمسين لعيد النصر 19 مارس 2012 فيما يلي نصها الكامل: ''في غمرة ما يعيشه الوطن هذه الأيام من تحولات عميقة واعدة تطول مناحي حياة المواطن ومؤسسات الجمهورية تحل الذكرى الخمسين لعيد النصر لتكون واسطة العقد التي فيها نقف لاستخلاص ما يجب استخلاصه من دروس وقيم سوف تظل ماثلة في وجداننا على مر الأيام والسنين. هذا اليوم المجيد هو من أفضل أيام الجزائر وأكثرها وقعا على كياننا أفرادا ومجتمعا لأنه يمثل التجسيد الملموس لحلم طال انتظاره على مدار عقود كثيرة تعاقبت وكان فيها هو الأمل المرتجى والخلاص الذي من اجله توارثت أجيال ضروبا لا تحتمل من المعاناة والبؤس والظلم وخاضت في سبيله أجيال صنوف المقاومة والكفاح التي لم يخب أوارها ولم يهدأ تأججها في كل حين ومنذ ان وطئت أقدام الغزاة أرض الجزائر. أن 19 مارس 1962 هو بالفعل بمثابة الانبعاث لوطن عريق يمتد بأصالته وبقيمه وبحضارته إلى أعماق التاريخ هو استنشاق لهواء نقي طالما حرم منه وأجبر على بدائل لم يكن يقبلها ولا أن يعتبرها قدرا محتوما وأمرا مقضيا لا مناص منه ولا فكاك. 19 مارس هو إنجاز المصير والنهاية لمحنة اشتد بؤسها وطال أمدها ما يزيد عن القرن من الزمان. وهو يوم خالد لأنه يحيلنا إلى عمق ما كابدته الأمة وما خاضته من عراك شديد البأس من اجل الوصول إليه وصناعته بالصورة التي تجلى فيها. قليلة هي الشعوب التي يعني مدلول النصر عندها ما يدل عليه عندنا. له معاني لا ينكرها إلا من في صدورهم مرض. فقد يذهب بنا الرأي مذاهب شتى وتتباين المواقف وقد نختلف لكننا عندما نقف على عتبات عيدنا نقف صفا واحدا متكاتفين متضامنين لأنه الخيار الاسمي الذي أنجزه الآباء والأبناء إلى غاية جيل نوفمبر المجيد. إنه الوعاء الذي يجمع شملنا ويشعرنا بوحدتنا واعتزازنا بكياننا كجزائريين ويهدينا في ذات الوقت إلى ما يمليه علينا واجبنا والقيام به في كل الظروف. فحقيق بنا أن نستحضر تلك الصور من البطولات التي مثلت قربانا للنصر وفداء للوطن وأن تستعيد معها ذكريات أولئك الرجال والنساء من أبناء الجزائر في الوطن وفي ديار الغربة هؤلاء الذين قدموا الأرواح وتكبدوا ما لا يخطر على بال من ألوان التضحيات لكي يخرج يوم النصر بالحلة التي خرج بها. إن الاحتفال بيوم النصر لا يعني الاقتصار على الاحتفاء العابر بالمناسبة أو الاكتفاء باستنطاق تاريخ أولئك الأشاوس من الشهداء والضحايا بل هو مناسبة للذكرى وللاعتبار الذكرى تعني مساءلة الذات عن مدى وفائنا لأرواح هؤلاء. ومساءلة الذات تعني وقوف موقف التقويم لما نقوم به لإعطاء النصر كل ما يقتضيه من واجبات. وهل نقف اليوم كما وقف صناع النصر على الأرض الصلبة من حيث المبادئ وصواب التوجيهات ونتائج الأعمال فتسبق إنجازاتنا أسماءنا وتتكلم أعمالنا بدلا عنا في كل المواقع والجهات والمستويات. لقد تحقق النصر نتيجة تفاعل فريد بين مكونات الفعل التحرري المتكامل بحيث كانت البندقية تدعم السياسة وكانت السياسة اللسان المعبر عن البندقية وكان الشعب برمته يغذيهما من روحه ودمه ثم يصب هذا الجهد في عمل رائع خلاق منسجم ومتناغم وتستطيع الثورة الجزائرية هكذا أن تقف وقفتها الصلبة في المحافل الدولية فلا تميل ولا تحيد ولا تتأثر بما يحاك لها من مؤامرات ومكائد. حري بنا في يوم النصر الكبير أن نهنئ الجزائر وكلما عادت الذكرى بتلك التجربة المليئة بالعبر ومنها الخصوصية التي اتسم بها الجزائريون الذين تمكنوا من أن يفتكوا الحق كاملا غير منقوص بالكيفية التي سطرها بيان أول نوفمبر وما تلاه من مرجعيات سطرتها مؤسسات ثورة التحرير. ومن واجبنا أيضا في الذكرى الخمسين لعيد النصر أن نراجع الذات بجدية وأن نتأمل فيما إذا كنا نبرهن عبر ما نقوم به من العمل على الاحتفاظ بالروح الكامنة في هذا اليوم وإننا ننجح في تحويل هذه الروح إلى حركة مستمرة تجاه المستقبل. إنني على يقين من أنه لا تعارض بين التمسك بمرجعيات التحرر الأصلية وضرورات التغيير بما يقتضيه الإصلاح وتحتمه الأوضاع المتجددة. فالنصر هو قيمة مرجعية ينبغي أن يظل باقيا وثيق العرى ثابت الوجود في كل عمل نقوم به وأن نجاحنا في نقل هذه القيمة إلى الأجيال الصاعدة هو جزء من المهام التي نقوم بها في بقية المجالات. أحسب أننا بعد 5 عقود مضت منذ الانعتاق أصبح في مقدورنا النظر بموضوعية فيما استطعنا انجازه. ومهما قيل فإننا نجزم بأن الرجال الذين واصلوا العمل ما بعد النصر ومن لحقهم من شبان وشابات الاستقلال كانوا في مستوى الرهانات المطروحة واستطاعوا أن يعيشوا في صميم اشتراطات النصر وفي غمار مقتضياته. تمكنوا من إرساء مؤسسات دولة في ظل أوضاع صعبة وعلى أنقاض تركة ثقيلة منها ما كان طبيعيا ومنها ما كان مفتعلا. وفي هذا المقام كانت الإرادة نفسها التي قادتهم إلى انجاز النصر هي الإرادة نفسها التي حفزتهم على البناء ومكنتهم من تجاوز مخاض المرحلة الانتقالية وعوائق التأسيس وهي ذاتها التي جعلتهم ينجحون في تضميد الجراح وإزالة مظاهر البؤس والشروع في بناء نسيج جزائري جديد في كل المجالات. وأحسب أيضا أننا ونحن نعيش أجواء الحوار مع الرأي المخالف ونعيش نسائم الحرية والإصلاح من واجبنا كذلك أن نثمن كل تلك الجهود التي بذلت على مدار الخمسين سنة من سنوات النصر في البناء والتشييد وفي صناعة الجزائرالجديدة وقد تكون هذه الدعوة في موطنها إذا ما عدنا إلى الوضع الذي كان يسود السنوات الاستعمارية العجاف وكيف كان حال الآباء والأمهات وكيف كانت الآفات تفتك بالشعب الأسير. وإذا كنا لا ننكر ما اعترى مسيرة البناء من أخطاء وهفوات فإننا بالقدر ذاته لا يمكننا نكران تلك الانجازات التي كانت خير رد على الرهانات المنذرة بالفشل وحسابات الحاسبين. يمكننا القول دون موارية إن كل خطوة ايجابية حققناها كانت تستلهم نصيبها من رصيد الكفاح الوطني ومن ثمرته المتمثلة في النصر، بل أن حمولته الطيبة والروح الوطنية المستمرة المتنقلة عبر الأجيال هي التي ساعدتنا على تجاوز المحنة والابتلاءات التي تعرضت لها الأمة والوطن في عشرية الدم والألم. لقد كنا نعرف جيدا أن للنصر ثمنا باهظا وقد دفعناه مسبقا وعلينا في هذه الأيام أن نبرهن في كل أعمالنا على أننا أهل له ولأفراحه وأن نمضي قدما في تعميق مسار الإصلاحات وانجازها. في هذا المجال يمكنني أن أتحدث بعدما مضى مشروع إصلاح العدالة الذي كان من الأولويات الوطنية خطوات متقدمة على الصعيد الهيكلي والقانوني والبشري وستكون السلطة القضائية في الأيام القادمة أمام مسؤولية وطنية جديرة بالتوقف عندها ذلك أنها ولأول مرة ستكون الحارس المحايد على الانتخابات التشريعية القادمة والتي تعتبر أولى محطات الرحال في مسيرة الإصلاح الشاملة وقد تم إرساء مستلزماتها القانونية وستأتي إنجازاتها تباعا بداية من الانتخابات النيابية. يمكنني التأكيد مرة أخرى على أن الإصلاح الذي نرنو إليه والذي سيكون القضاء العين الحارسة على مدى نزاهته وشفافيته هو إصلاح وطني ومرحلة طبيعية في بناء الأمة بعدما تحققت القواعد المادية الأساسية وتحسن المستوى المعيشي للمواطنين وأننا سنخوض غماره بعون الله بإرادتنا الذاتية ومراعاة لمصلحتنا الوطنية وهو مسار متدرج وبناء لا يدير ظهره للمستجدات الجارية هنا وهناك. إن الانتخابات التشريعية القادمة التي اختير للإشراف عليها قضاة أكفاء تمثل المحك الكبير الذي يعول عليه في هذا النهج وهذا يملي التفكير بذهنية جديدة وبفهم أكثر نضجا لمدلول النيابة ولمعاني التمثيل النيابي وللدور الوطني والمحلي المناط بالنائب. وإذا كانت الأولويات فيما مضى قد خصصت أدوارا معينة للسلطة التشريعية فإنها الآن أمام واقع جديد وبيئة سياسية واجتماعية جديدة تقوم على مفاهيم وعلى ضوابط يقتضيها الأداء الجديد ومن واجب المترشح لهذه المسؤولية السامية أن يفكر مليا في ما ينتظر منه وفي مدلول الامتياز الذي يتيحه له التمثيل النيابي وفي مقدمة ذلك أنه أصبح وأكثر من أي وقت مضى يقف أمام مسؤولية تجعله مطالبا بتأمين نتائج فعلية يحققها في الميدان سواء في نطاق الحيز الجغرافي الذي ينوب عنه أو على الصعيد الوطني الذي يشرع له وإنني لآمل أن تكون الانتخابات القادمة البرهان العملي لتعبير أبناء الوطن بكثافة وحماس عن اختيارهم وقول كلمتهم بنفس الزخم وبذات الروح التي دفعتهم ذات يوم من 1962 إلى الاستفتاء على تقرير المصير . كما آمل أن تثبت المرأة الجزائرية التي كانت في واجهة الأحداث أيام النصر وأثناء الكفاح من أجل النصر جدارتها وموقعها في هذه الانتخابات منتخبة ونائبا. ولا شك في أن ما حصلت عليه في المجال العلمي والمهني وفي مختلف المجالات يجعلها جديرة بالوجود القوي داخل المؤسسات الدستورية والهياكل المحلية المنتخبة وذلك من حقها وأيضا من واجبها. وكل عام وانتم بخير، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته''.