ألقى رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة أمس الثلاثاء بولاية سطيف خطابا بمناسبة إشرافه على الاحتفالات المخلدة لذكرى مجازر 8 ماي 1945 وزيارة العمل والتفقد التي يقوم بها لهذه الولاية فيما يلي نصه الكامل: ''باسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين أيتها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل نلتقي اليوم في هذه الربوع الجميلة بما حباها الله به من طبيعة خلابة وطباع مجبولة على الكرم والشجاعة والوطنية وهي التي أرادها المحتل بالأمس بمجازره الفظيعة دمارا وخرابا لكنها قد سفهت مزاعمه بفضل عزيمة نسائها ورجالها الذين أبدوا شجاعة منقطعة النظير إبان الثورة التحريرية الظافرة فمنهم من نال شرف الشهادة ومنهم من حمل لواء النصر بعد أن وضعت الحرب أوزارها ليسهم في تعميرها وتنميتها لتغدو اليوم هذه المدينة حاضرة من حواضر الجزائر وبوابة للأمل في الارتقاء والنهضة. لقد علمتنا منطقة سطيف على غرار كل مناطق وطننا بأنها عبر التاريخ قلعة من قلاع الصمود والمقاومة وصرحا من صروح العلم والأدب والفنون والرياضة. وبهذه المناسبة مرة أخرى أجد نفسي سعيدا وأنا أرى الفرحة ما تزال تغمركم على أثر نيل فريقكم العتيد وفاق سطيف كأس الجمهورية. كما أهنئ فريق شباب بلوزداد على ما أبلاه من جميل البلاء بأناقة وفاعلية لنيل الكأس وإن لم يسعده الحظ فقد نال إعجاب جميع الرياضيين في الجزائر ويبقى وفاق سطيف جديرا بالتقدير وهو يحرز الكأس للمرة الثامنة وفي كل الحالات فإن الفائز الأكبر هي الكرة الجزائرية وجمهورها الذي أصبح يميل إلى التشجيع بأسلوب حضاري رصين فهنيئا للرياضيين جميعا وهنيئا لنا معكم. إن سطيف اليوم قطب اقتصادي كبير وثقافي وجامعي سيؤهل لا محالة شاباتها وشبانها لان يضطلعوا بمهامهم الجليلة في العلم والعمل والتنمية والرقي مستلهمين مآثر أبائهم وأجدادهم رافعين تحدي الإصلاحات الكبرى التي باشرتها الجزائر على كافة الصعد وإنه لرهان وطني أؤكده من هذه المنطقة المتميزة إلى كل الشباب الجزائري الغيور على وطنه القابض بالنواجذ على وطنيته المتطلع إلى الرقي والسلم والاستقرار بما يجعله في مستوى التحديات التي تواجه عالمنا العربي والاسلامي. أيتها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل من مدينة سطيف هذه المدينة العريقة والرمز نستحضر اليوم الذكرى الأليمة للثامن من مايو 1945 مترحمين في خشوع وإكبار على أرواح الشهداء الزكية الطاهرة أرواح أولئك الذين راحوا ضحايا للتقتيل في شتى مناطق البلاد وخاصة في سطيف وقالمة وخراطة نساء ورجالا شيوخا وأطفالا عزلا خرجوا على غرار الشعوب المنتصرة على الطغيان النازي محتفلين مبتهجين بنهاية الحرب العالمية مسالمين حاملين الأعلام آملين في نيل حقهم المشروع في الحرية والكرامة بعد مشاركة شعبهم في الحرب العالمية المنتهية ضد النازية والفاشية. ونحن نستحضر ذكرى ذلكم اليوم الأليم نتذكر بعظيم الإكبار الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب الجزائري بأجياله المتعاقبة من اجل حريته وكرامته. وعلى الرغم من كل ذلك عملت الدولة الجزائرية المستقلة وبروح متسامية ورؤية مستقبلية منذ خمسين عاما على إقامة علاقات صداقة وتعاون مثمر مع مختلف دول العالم وفي مقدمتها الدولة الفرنسية علاقات تقوم على المصالح المشتركة إيمانا منها بضرورة جعل البحر الأبيض المتوسط فضاء سلام وخير مشترك بين شعوب المنطقة متطلعة إلى نظام دولي أكثر إنصافا وتضامنا وتسامحا. إن قراءة موضوعية للتاريخ بعيدا عن حروب الذاكرة والرهانات الظرفية هي وحدها الكفيلة بمساعدة الجانبين على تجاوز رواسب الماضي العسير نحو مستقبل يسير تسوده الثقة والتفاهم والاحترام المتبادل والشراكة المفيدة. أيتها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل لقد كان ثمن استرجاع الحرية والسيادة الوطنية باهظا مثله كان ثمنه صون وحدة البلاد والنظام الجمهوري وتكريس الأمن والسلم والمصالحة. لذا فإنه لزام على الشعب الجزائري وخاصة على أجياله الجديدة أن يدركوا بكل وعي أن ما حققته البلاد من حرية واستقرار وتقدم وديمقراطية إنما كان نتيجة تضحيات غالية وجهود جبارة يجب إن تقدر حق قدرها حتى تحفظ هذه المكاسب المعتبرة بعناية واعتزاز وتثمن بمواصلة التشييد والإصلاح لبلوغ ما نصبو إليه من تقدم ومكانة محترمة بين الأمم. إننا نعيش اليوم مرحلة مفصلية في تاريخ البلاد تتطلب تضافر الجهود لتحقيق وثبة نوعية في مسيرة التنمية والتجدد بعد نصف قرن من استرجاع السيادة الوطنية. إنها مرحلة حساسة مفتوحة على إفرازات عولمة كاسحة تدخلنا عهدا مشحونا بالتحديات المعقدة التي تتطلب سرعة التأقلم وزيادة اليقظة والتعبئة والتمكن من العلوم والتكنولوجيات الحديثة عهدا جديدا مفتوحا على التحولات الجارفة لا مكان فيه للشعوب الضعيفة. لقد كانت الجزائر ايجابية التفاعل مع حركة التاريخ في خوضها ثورة تحريرية كبرى وإنجاز تنمية شاملة مستدامة واعتماد ديمقراطية أصيلة تعززت خلال السنوات الأخيرة ببرنامج انجازات اقتصادية واجتماعية معتبرة وإصلاحات سياسية واسعة تهدف أساسا إلى تمتين دعائم دولة الحق والقانون في مجتمع متماسك تتأصل فيه الحريات الفردية والجماعية وحقوق الإنسان. وفي هذا السياق تتجلى الأهمية القصوى للانتخابات التشريعية المقبلة سواء من حيث التوقيت الحساس أو من حيث سيترتب عنها من انعكاسات معتبرة مما يجعلها اختبارا لمصداقية البلاد إنها محطة فاصلة في استكمال برنامج الإصلاح والتحديث. أيتها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل وفاء لكل الذين اقتلعوا من أرضهم وصودرت هويتهم وماتوا فقرا وجهلا ومرضا مقهورين مشردين منفيين في وطنهم وأقصى الجزر البعيدة الذين استشهدوا صابرين صامدين في كل شبر من أرضنا الثائرة محشورين في زنازين مظلمة أو محتشدات بائسة محروقين في مغارات منسية أو مدفونين أحياء في مقابر جماعية بلا اسم ولا عنوان. وفاء لذكرى شهداء 8 مايو 1945 شهداء المقاومة الشعبية والحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر المجيدة الأخيار الأبرار الذين ضحوا أجيالا متتالية بالغالي والنفيس من اجل أن يحيا أبناؤهم وأحفادهم في حرية وعزة وكرامة. وفاء لذكرى شهيدات وشهداء الواجب الوطني بكل شرائحهم وفئاتهم وفي مقدمتهم أفراد الجيش الوطني الشعبي العتيد وكافة الأجهزة الأمنية الذين تصدوا لآلة الموت والإرهاب المقيت كي تبقى الجمهورية واقفة متوحدة متصالحة قوية شامخة متألقة. وفاء للعهد المقدس للذاكرة وضد النسيان أخاطبكم أنتم الحافظين للأمانة الأوفياء للرسالة القادرين على رفع التحدي كما فعلتم في كل المنعرجات الحاسمة التي واجهت الوطن. أنتم الذين حفظتم الدروس والعبر واكتويتم بجحيم الاستعمار وشروره ولهيب الفتنة وويلاتها. أنتم الذين تقدرون ما يحيط بالبلاد من مخاطر معقدة في جغرافية مضطربة هنا وهناك الحريصين على استقرار البلاد وصيانتها من أي مصير لا تحمد عقباه الراغبين في مواصلة الإصلاح وتغيير ما بأنفسهم بقناعة ومسؤولية بأسلوب رصين تبرزون من خلاله للعالم الوجه الناصع لجزائر اليوم وجزائر الغد. من هذا المنظور إني أهيب بكم أبناء الجزائر نساء ورجالا كبارا وشبابا أن تكونوا في مستوى التحديات التي تواجه الأمة مؤكدين التزامكم وتجندكم الجماعي مستجيبين لنداء الوطن. كما خرج الشعب الجزائري في مثل هذا اليوم قبل سبعة وستين عاما موحدا معبأ هاتفا بصوته العالي معبرا عن موقفه المشهود مدافعا بشجاعة وشهامة عن قضيته الوطنية أدعو الجميع إلى الخروج يوم الاقتراع خروجا حاشدا لتخوضوا مرحلة جديدة من مسيرة التنمية والإصلاحات والتطور الديمقراطي في وطنكم الجزائر. أدعو كل الشرائح والفئات أن تعبر عن اختيارها الحر في انتخاب ممثليها من أي اتجاه أو انتماء كانوا في هذه الانتخابات التشريعية التي ستكون مغايرة لسابقاتها متميزة من حيث المشاركة الأوسع لمختلف التيارات السياسية وكذا مشاركة واسعة منتظرة للنساء والشباب على قوائم الترشيحات وذلك ثمرة للتطور الديمقراطي في بلادنا. ستكون هذه الانتخابات متميزة من حيث الضمانات العديدة التي وفرناها لتكون كما يريدها شعبنا نظيفة شفافة انتخابات ناجحة بفضل مساهمة الجميع قضاء مستقل وإدارة محايدة وأحزابا فاعلة وجمعيات نشيطة يقظة وصحافة حرة ومراقبة وطنية ودولية إلى غير ذلك من الإجراءات. آمل أن تهب أيها الشعب الجزائري كما عهدناك في المواعيد الهامة ملتزما بأداء واجبك الوطني وممارسة حقك الدستوري واعيا متحملا مسؤوليتك الكاملة فاعلا مقدرا لدورك الحيوي وأهمية صوتك الذي نريده عاليا مسموعا ومؤثرا في صناعة القرارات وتحديد السياسات. وذلك من خلال انتخاب مجلس وطني شعبي تعددي سليم التركيبة يعكس واقع الأمة وتطلعاتها يكفل حق المشاركة الفعلية للجميع بما فيها الأحزاب الفتية الناشئة واختيار منتخبين ذوي كفاءة ومصداقية حاملين رؤى جديدة وبرامج جادة حصيفة أوفياء للعقد الأخلاقي الذي يربطهم بمنتخبيهم مراعين لانشغالاتهم حريصين على تبليغها وتلبيتها مسخرين دوما جهودهم لأداء مهامهم على أحسن وجه بصفتهم ممثلين للأمة واضعين المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار منتخبين سيشكلون هيئة تشريعية شاملة لمختلف الشرائح والفئات والاتجاهات والكفاءات مما يجعلها جديرة بأصواتكم وتزكيتهم أكثر مصداقية وتأهيلا للاضطلاع بمهام معتبرة تمليها مقتضيات المرحلة القادمة إذ ستتولى استكمال تكييف المنظومة القانونية الوطنية بما يعكس مستوى الإصلاحات السياسية وفي مقدمتها مراجعة الدستور والذي سيكون فاتحة عهد جديد لاسيما فيما يتعلق بترقية الحكم الراشد وتحديث مؤسسات الجمهورية وكذا توسيع مجال الحقوق والحريات. كل ذلك من أجل مواكبة تحولات المجتمع والاستجابة لمقتضيات التنمية وخاصة خدمة مصالح المواطنات والمواطنين. مهما بلغت الإصلاحات من جدارة والنصوص التشريعية والتنظيمية الجديدة من جودة فإنه لا يمكن أن نعدها غاية في حد ذاتها حيث أن المبتغى هو التطبيق السليم الذي تتلقاه هذه السياسات من قبل كل الفاعلين بهدف تحقيق مرمانا الجماعي المتمثل في تشكيل وتنصيب مؤسسات دستورية لا شائبة في مصداقيتها ولا في مشروعيتها. لتحقيق ذلك يجب أن نعمل على توفير الجو المناسب لجعل الجزائريات والجزائريين يضطلعون حسا ومعنى بمواطنتهم حقوقا وواجبات ويسهمون بكل وعي وتبصر في دفع عجلة صيرورة بلادهم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا نحو الأفضل. إن الديمقراطية قبل أن تكون ممارسة وآليات هي ثقافة جماعية يتحلى بها الجميع سلطة ومعارضة ومجتمعا مدنيا وجميع الفاعلين في الساحة السياسية وهي محصلة تطور اجتماعي عميق تبلغه الأمم والدول عبر مسارات طويلة وأنساق ليست بالضرورة متطابقة ولا متشابهة. إن رصيد الجزائر طافح بالتجارب والدروس وفيه ما يكفي من العبر التي تساعد الجزائريات والجزائريين على استنباط البرامج الوجيهة والمناهج الصائبة التي تناسبهم في إقامة دولة المواطنة والحق والقانون. إن القيام بالواجب الانتخابي أمانة عظمى من بين أمانات المواطنة الواعية الراشدة وهي تقتضي تحكيم الضمير الوطني إيمانا واحتسابا في اختيار البرامج والمرشحين والمرشحات الأكفاء الخالين مما يعرض أهليتهم السياسية والأخلاقية للطعن. وأما المرشحون والمرشحات الذين يقدمون على دخول المعترك الانتخابي فلابد لهم أن يقتنعوا بأن هذه المرحلة من حياة بلادنا لا تسوغ البتة التصرفات الشائنة وغير المرضية في تعاطي المنافسة الانتخابية تلك التصرفات الدونية التي تمس بمصداقية مجالسنا المنتخبة وتحط من القيمة المعنوية والأخلاقية لخدمة المواطن لأمته في المجال السياسي. إن أملنا اليوم هو أن يكون نجاح الانتخابات التشريعية في مستوى الجهود التي بذلت في التمهيد لها وشرح الرهان الكبير المعقود عليها. إن دولة الحق والقانون والديمقراطية التي نصبو إلى استكمال بنائها لا تتحقق دون تعبئة كل فئات الشعب لبذل الجهود وضمها من اجل تأطير الساحة السياسية الوطنية وتنشيطها من جهة وحماية اقتصاد البلاد وتحريكه من جهة ثانية. ذلكم هو السبيل الانجع والوحيد الذي يضمن حقوق شعبنا ومستقبل بلدنا. أيها السيدات الفضليات أيها السادة الأفاضل إن البلاد على أعتاب مرحلة مصيرية لا خيار لنا فيها إلا النجاح لذا فأنا على يقين من أن الشعب الجزائري الأبي الذي يقدر أهمية الحدث وحساسية الظرف لن يخلف وعده ولن يخذل وطنه في هذا الموعد الملحوظ من هذه السنة الغراء. أنا واثق بأن شباب الجزائر الذي تخرج بالملايين من المدرسة الجزائرية الواعي المتفتح على عالم المعرفة الحديثة وتكنولوجيات الاتصال المدرك لتحديات العولمة ومخاطرها سيتصدى لمن يتربص بالبلاد شرا واثق بأنه سيتصدى لدعاة الفتنة والفرقة وحسابات التدخل الأجنبي. انه سيبرهن مرة أخرى انه أهل للمسؤولية سيرفع التحدي ويصدح بصوته عاليا رافعا الوطن شامخا جاعلا هذه الانتخابات وثبة أخرى في مسيرة البناء والتجدد الوطني ويوم الاقتراع عرسا للديمقراطية في جزائرنا الحبيبة. المجد والخلود لشهدائنا الأبرار. تحيا الجزائر. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته''.