استطاعت الدبلوماسية الجزائرية أن تكرس مكانتها قبل و بعد الإستقلال ،مستلهمة نشاطها من مبادئ ثورة أول نوفمبر المظفرة التي عززت حضورها القوي و الفعال في شتى المحافل الدولية و رفع التحديات التي تواجه المجموعة الدولية .و منها القضايا المتعلقة بالإرهاب و الأمن الدولي و نزع السلاح و إشكالية التنمية و حماية البيئة و حوار الحضارات. فإذا كانت الحكومات هي التي تصنع سياستها الخارجية عن طريق دبلوماسيتها، فإن الدبلوماسية الجزائرية هي التي أسست الدولة الجزائرية المعاصرة بعد دولة الأمير عبد القادر. و ظهر الإهتمام بالعمل الخارجي قبل اندلاع الثورة التحريرية، لتظهر ثمرات العمل الدبلوماسي في انعقاد مؤتمر الصومام 1956 ،الذي حدد أهداف الثورة ومنها عزل فرنسا عن الجزائر وعن العالم سياسيا، السعي للحصول على أقوى ما يمكن من التأييد المادي والمعنوي والروحي، حمل الحكومات على مناصرة القضية الجزائرية في المحافل الدولية و طرح القضية الجزائرية في المؤتمرات الإقليمية والعالمية. إبان الثورة التحريرية المظفرة ،إستطاعت جبهة التحرير الوطني أن ترسل بمبعوثين كان لهم دور أساسي في التعريف بالقضية الجزائرية عبر المحافل الدولية ،مما أسفر عن مساندة الكثير من الشعوب والحكومات للقضية الجزائرية ماديا وسياسيا. و فتح الطريق نحو هيئة الأممالمتحدة التي أشعرت رسميا برسالة مؤرخة في 26 جويلية 1955، موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة والصادرة من 14 بلدا مشاركا في مؤتمر باندونغ، مطالبين بتسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمال الدورة العاشرة للأمم المتحدة. كما لعب ممثل جبهة التحرير الوطني لمين دباغين دوراً هاماً في مؤتمر القاهرة بين سبتمبر 1957 وجانفي 1958 ،حيث تم التصويت على لائحة من طرف 44 دولة أفروآسيوية يمثلها 500 مبعوث تنص على إستقلال الجزائر وفسح المجال للتفاوض مع جبهة التحرير الوطني. كما استطاع ممثلو الجبهة في الخارج عن طريق التنسيق مع قيادة الداخل من التوصل إلى الإعلان عن تأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بقيادة فرحات عباس وظهرت قوة العمل الدبلوماسي في مؤتمر منروفيا (ليبيريا) في أوت 1959 ، حيث إنضم وفد الحكومة الجزائرية المؤقتة كعضو رسمي و رفرف العلم الجزائري إلى جانب رايات البلدان الإفريقية المستقلة التسع. كل هذه الأعمال الجبارة والنتائج المحققة كانت نقطة قوة في إجبار فرنسا على التفاوض وسير المفاوضات و إعتراف فرنسا بجبهة التحرير الوطني كممثل شرعي ووحيد للشعب الجزائري، كما إستطاعت الدبلوماسية الجزائرية إنتزاع الإستقلال من فرنسا رغم طول مدة المفاوضات وإختلاف الطرفين في العديد من القضايا . الجزائر عمق إستراتيجي في شمال إفريقيا و تبرز الجزائر، قلب شمال إفريقيا، كعمق إستراتيجي بالنظر لموقعها البحري جنوب المتوسط و أوروبا شمال المتوسط ، فحملت على عاتقها مسؤولية الدفاع عن الأمن القومي الذي يمس المصالح العليا الثابتة للعديد من القوى الإقليمية الدولية ، فقد كتب شارل ديغول الرئيس الأسبق الفرنسي "إن الإستراتيجية الرومانية قامت على أساس أنّ من يريد أن يتحكم في القارة الأوروبية لابد أن يسيطر و يمارس سيادته في شمال إفريقيا ". و بإنتماء الجزائر إلى عدة دوائر و هي الدائرة المغاربية، الإفريقية، المتوسطية، العربية والإسلامية، إرتكزت السياسة الخارجية الجزائرية على مبدأ دعم هذه الدوائر التي هي جزء منها، و ذلك عبر دبلوماسيتها الثابتة من خلال مسيرة طويلة . فمنذ إستقلال الجزائر العام 1962 ، لعبت السياسة الخارجية الجزائرية دورا في الدفاع عن القضايا العربية و الإفريقية، كالإعلان عن الثورة الفلسطينية سنة 1965 من الجزائر و الإعلان عن قيام دولة فلسطين من الجزائر في نوفمبر 1988 . و العمل على تصفية الإستعمار في إفريقيا و التمييز العنصري و الحد من الإضطرابات العرقية و الإثنية، إلى درجة أن هناك من بالغ في نقدها بوصفها (بالبقرة الحلوب) نتيجة فعالية و فاعلية و تدخل الدبلوماسية الجزائرية في المناسبات الإقليمية و الدولية على حساب قضاياها المحلية. فعلى مستوى ترقية دور منظمة الأممالمتحدة أصبحت الجزائر في الوقت الراهن، شريكا لا يمكن الإستغناء عنه في المفاوضات الدولية، فمند سنة 2000 تم تمثيل الجزائر عدة مرات من طرف رئيس الجمهورية في أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة نذكر منها قمة الألفية، المنعقدة في سبتمبر 2000، والقمة الدولية في سنة 2005، المخصصة لإصلاح هيئة الأممالمتحدة. كما إنتُخبت الجزائر عضواً في مجلس الأمن في سنة 2003 فكان ذلك تكريسا لإستعادة الجزائر مكانتها على الساحة الدولية ونوعا من الإعتراف بمساهمتها الفعالة في مسار إصلاح منظمة الأممالمتحدة والذي تتمثل أولى مراحله في إنشاء مجلس حقوق الإنسان ولجنة الأممالمتحدة لتعزيز السلم وفي ضبط إستراتيجية واضحة لمكافحة الإرهاب عبر العالم. و على صعيد إتحاد المغرب العربي بادرت الجزائر مند سنة 2001، بإعادة تنشيط هياكل ودواليب هذه المجموعة المغاربية ووضع حد للجمود الذي شل نشاطاتها مند سنة 1995.أما على الصعيد العربي تعتبر قمة الجزائر، التي إنعقدت في شهر مارس 2005، معلما بارزا في إصلاح منظومة العمل العربي المشترك؛ والدليل على ذلك هو القرارات التي أسفرت عنها والمتعلقة بإلغاء العمل بنظام التصويت بالإجماع وبإنشاء عدد من المؤسسات الجديدة مثل البرلمان العربي الإنتقالي والمجلس العربي للسلام والأمن ومحكمة العدل العربية. و على مستوى البعد الإفريقي، فيتجلى ذلك في الجهود الحثيثة التي ما فتئت الجزائر تبذلها من أجل إقامة هيئات جديدة على مستوى القارة الإفريقية، على غرار مجلس السلم والأمن وتأسيس البرلمان الإفريقي وكذا إتمام مسار إدماج هيئة النيباد ضمن تنظيماتها، علما أن رئيس الجمهورية كان من أبرز الفاعلين في هذا الصدد ولاسيما في إطار لقاءاته مع قادة مجموعة الدول الثمانية والمنظمة الأوروبية للتعاون والتنمية من أجل تقديم الدعم للقارة الأفريقية. وعلى المستوى الأوروبي، إستغلت الجزائر فرصة إبرام إتفاق الشراكة لتفتح سبل الحوار المستمر مع دول الإتحاد الأوروبي خدمة للمصالح المشتركة .وذلك بهدف الوصول في نهاية المطاف إلى خلق منطقة للتبادل الحر بين الطرفين في أفق سنة 2017. كما أدرجت الجزائر ضمن أولوياتها في هذا الصدد تحسين ظروف إقامة الأشخاص وتنقلهم بين الجزائر ودول الإتحاد الأوروبي. توطيد أسس السلم أكبر الرهانات كما يعتبر توطيد أسس السلم في العالم من أكبر الرهانات التي تعمل الدبلوماسية الجزائرية على كسبها، ذلك أن الجزائر تناضل من أجل تعزيز سبل التعاون بين الأممالمتحدة والإتحاد الأفريقي فيما يتعلق بالوقاية وفض النزاعات في القارة الأفريقية. وتندرج مساهمة بلادنا في هذا المنظور في إيفاد الملاحظين للمشاركة في عمليات حفظ الأمن التي تتولاها الأممالمتحدة. و يبرز نجاح مساعي الصلح على يد رئيس الجمهورية لإنهاء النزاع الإثيوبي الإريتيري والنزاع بين الحكومة المالية والمتمردين الطوارق فعالية الدبلوماسية الجزائرية . إذ أن إتفاق الجزائر المبرم في 04 جويلية 2006، لإحلال السلم والأمن و التنمية في إقليم كيدال، لدليل ملموس على عمق إلتزام الجزائر بقضايا منطقة الساحل التي تمثل في نظرها نطاقا أمنيا ومنطقة حيوية. و أما بروز التحديات الأمنية على المستويين الإقليمي و الدولي ، فقد طغت هذه التحديات وكيفية مجابهتها على نشاط الدبلوماسية الجزائرية في الآونة الأخيرة ، مركزة جهودها على الدعوة إلى ضمان تنسيق أكبر بين المجموعة الدولية في محاربة الإرهاب وضمان الأمن، و كانت الجزائر سباقة إلى مطالبة المجتمع الدولي بتنسيق الجهود والتحسيس بخطورة الإرهاب ، الذي أخذ ضرورة مكافحته حيزاً من نشاط الدبلوماسية الجزائرية من خلال إحتضان البلاد لإجتماعات عالية المستوى. ولم تنفك الجزائر عن المطالبة بضرورة إبرام إتفاقية دولية شاملة بخصوص قضية الإرهاب إذ ساهمت بفعالية كبيرة، في إطار المنتدى المتوسطي (FOROMED) لحث الدول المشاركة فيه على تبني موقف موحد ضد الإرهاب .كما دعت أيضا إلى إبرام عدد من الإتفاقيات للوقاية من الإرهاب ولمكافحته على الصعيد الإفريقي والعربي والإسلامي. و توجت تلك الجهود بتأسيس المركز الإفريقي للدراسات والبحوث حول الارهاب ومقره الجزائر العاصمة. وأمام التحولات التي تشهدها البلاد العربية في الآونة الأخيرة ، فقد وجه الإنتقاد لدور الدبلوماسية الجزائرية التي إختارت الحياد و التمسك بالمبادئ التي إنتهجتها سياستها الخارجية في ظل الحرب الباردة، إلى جانب إلتزامها بعدم الإستجابة أو الإستجابة بإحتشام لهذه التطورات . غير أن هذه التحاليل قد تجاهلت أو لم تتابع بإهتمام مسار الدبلوماسية الجزائرية، التي أفنت أجندتها السياسية في خدمة دوائر إنتماءاتها رغم تخلي هذه الأخيرة عنها، فقد تم عزل الجزائر خلال العشرية السوداء خوفا من إنتقال عدوى أزمتها الداخلية إلى خارج حدودها، و مع هذا لم تتقاعس الدبلوماسية الجزائرية في لعب دورها الإستراتيجي. فقد تدخلت الوساطة الجزائرية على سبيل المثال لا الحصر ، في النزاع الداخلي الذي نشب بين حكومة جمهورية مالي عندئذ و المتمردين من الطوارق عام 1991 – 1992، لتوقع الجزائر بذلك على وثيقة السلم الوطني لجمهورية مالي، رغم ما يشهده وضعها الداخلي من اضطرابات . و على هذا الأساس يرى مراقبون أنه ليس من أدبيات التحليل السياسي أن توجه أصابع الإتهام للدبلوماسية الجزائرية لعدم تدخلها في القضايا العربية الراهنة، ففي تقاليد السياسة الخارجية، فإن السياسة تكون ما بين الحكومات و ليس بين الشعوب، كما أنه من بين التقاليد الدبلوماسية عدم الإستجابة للمؤثرات الخارجية. و رغم ذلك فقد حذرت الجزائر في مناسبات عديدة من تطورات الوضع العربي الجديد دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول، مع التأكيد على إرادة شعوبها، رافضة التدخل الأجنبي لما له من تداعيات خطيرة على المنطقة.و قد إلتزمت بهذا الموقف طبقا لمبادئ سياستها الخارجية التي دعت من خلالها إلى ضرورة وقف إراقة الدماء والعنف . على صعيد آخر بادرت وزارة الشؤون الخارجية إلى إعادة تنشيط هياكلها، على الصعيدين المركزي والخارجي، قصد التكفل بصورة أفضل بحماية مصالح الوطن الجيوإستراتيجية والإقتصادية والإستجابة لإهتمامات الجالية الوطنية المقيمة بالخارج. فقد إنصبت جهود الدبلوماسية الجزائرية على دعم حقوق الجزائريين المقيمين في الدول الغربية والدول العربية على حد سواء وتعزيز الوشائج التي تربطهم بالوطن وذلك من خلال نشر اللغة العربية والثقافة الجزائرية وتحسيسهم بضرورة المساهمة في المجهود التنموي الوطني. و قد أعلنت الحكومة في هذا الصدد عن رسم سياسة جديدة تجاه الجالية للإستجابة لإنشغالاتها بالتشاور مع ممثليها ،إذ تقرر في هذا السياق وضع إجراءت عاجلة للتكفل بإستعادة جثامين المهاجرين و تعزيز تعليم اللغات الوطنية.بالإضافة إلى إنشاء شبكة وطنية للكفاءات بالخارج . كما قررت الحكومة إطلاق مشاورات مع الجالية الوطنية بالمهجر وذلك قصد بلورة تصور مشترك حول كيفية الإهتمام بكافة إنشغالاتهم من جميع مناحي الحياة. من خلال عقد سلسلة لقاءات وحوارات مباشرة عن طريق وسائط إعلامية منها الأنترنيت والتلفزيون.