حمل الباحث الفرنسي برونو كاليس دوساليس، أستاذ بالمدرسة العليا للتسيير بباريس، مسؤولية الهوة الثقافية بين ضفتي المتوسط للسياسيين والمثقفين الذين دعاهم إلى أن يقوموا بعمل معمق من أجل إرساء حوار حقيقي بين شعوب المنطقة وتفادي التصادم الناتج عن تمسك كل طرف بآرائه في عالم تطغى عليه لغة المصالح الاقتصادية. وقال دوساليس في محاضرة تحت عنوان "البعد الثقافي للشراكة الأورومتوسطية: البحر الأبيض المتوسط فضاء للتعاون أم للمواجهة"، ألقاها أمس بفندق "هيلتون" في إطار سلسلة اللقاءات "قواسم دولية" التي ينظمها المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية الشاملة، إن مفهوم الثقافة قد أخذ أبعادا متعددة مع المراحل التاريخية التي عرفتها المنطقة المتوسطية من خلال تعاقب الحضارات، مضيفا أن أفضل مفهوم هو ذلك الذي حددته منظمة اليونسكو باعتبارها تضم معظم الدول . في هذا الإطار، قدم المحاضر عرضا تاريخيا حول التقارب الثقافي الذي أخذ أوجها متعددة خلال القرون الماضية، مشيرا إلى أن هذا التقارب قد نتجت عن جملة من النشاطات العسكرية، اعتبرها المحاضر إيجابية عند البعض ومأساوية عند البعض الآخر، وأعطى -في السياق- مثالا عن الحضارة الأندلسية التي استفادت منها أوروبا كثيرا كالرياضيات والكيمياء والطب، على ضوء التنوع الثقافي الذي ميز تلك الفترة بفضل الوجود الإسلامي والمسيحي واليهودي الذي خلق فضاء لحوار متميز. كما أشار السيد دوساليس إلى أن الاحتكاك الحضاري، الذي ميز تلك المنطقة خلال العقود الماضية قد ألقى بظلاله على الجوانب الثقافية وهو ما تجلى في الفتوحات الإسلامية، التي عرفتها دول المغرب العربي والتي كانت إيجابية على المستوى الإنساني، من خلال تعايش السكان الأصليين مع الوافدين من دول المشرق العربي. وأوضح المحاضر الفرنسي أن تشجيع الحوار الثقافي عن طريق الجانب السياسي لم يكن له صدى مثل الجانب العسكري، مشيرا إلى أن نتائجه تبقى محتشمة، في حين أن المبادلات التجارية بين الشعوب قد شجعت هذا التقارب بشكل غير مباشر وبطريقة تلقائية. وبخلاف ذلك، قال السيد دوساليس إن فرض الثقافة على الغير قد أخذ مفهوما مغايرا خلال القرن الثامن عشر عن طريق الحملات البريطانية والفرنسية التي طالت دولا من الضفة الجنوبية لتزداد مع الثورة الصناعية في أوروبا، حيث برز التنافس الكبير بين الدولتين من أجل بسط اليد على ثروات هذه الدول، و كثيرا ما اتسم النشاط العسكري خلال هذه الفترة بالقمع باسم نشر الحضارة الأوروبية من أجل شرعنة الاستعمار الجديد.أما في المرحلة الحالية فإن المفهوم تطور بتطور العلوم والتكنولوجيا التي مكنت من التعريف بالمنتوج الثقافي، وأبرز دوساليس -في هذا الصدد- النقلة النوعية التي أحدثتها وسائل الإعلام والأنترنت في هذا التقارب، الذي قال عنه إنه اتخذ طابعا انتقائيا من خلال إظهار الصورة الخاطئة للإسلام في أوروبا، مما شجع على إثارة الكراهية ضد المسلمين، مؤكدا أن هذا السلوك المعادي والمقصود لن يشجع على الحوار الثقافي، بل يكرس التصادم. وأكد المحاضر -في السياق- أهمية تعزيز التعاون بين المراكز الاستراتيجية والثقافية لدول الحوض المتوسطي من أجل التصدي لمحاولات تكريس الهوة في الوقت الذي ينشد فيه الجميع إضفاء حوار حقيقي بين الشعوب والعودة إلى النماذج السابقة التي كانت مثالا لهذا الحوار، وتحدث السيد دوساليس -في هذا الصدد- "ما المانع في أن تبث وسائل الإعلام الفرنسية أفلاما قصيرة حول الشخصيات الإسلامية التي كان لها الفضل في نقل العلوم إلى أوروبا؟ وما المانع أيضا أن تدرج مقررات عن الحضارة الإسلامية في المناهج الدراسية؟".