انشغال زهرة قاصد مفتشة التربية والتعليم، اختصاص لغة عربية، ومحللة اجتماعية لمختلف الظواهر السلبية التي يتخبط فيها المجتمع، على غرار تفشي ظاهرة المخدرات في أوساط الشباب والمراهقين، التسرب المدرسي، الدجل والشعوذة، وغيرها، جعلها تبادر إلى القيام بعدة بحوث وإرفاقها بتحليلات اجتماعية، مع الخروج منها ببعض الحلول ومناقشتها عبر بعض القنوات التلفزيونية، آملة في المساهمة ولو بقدر بسيط في تغيّر بعض العقليات، وتحديدا تلك التي تعيق تقدم المنظومة التربوية. ارتأت “المساء” تسليط الضوء على حياة هذه الشخصية الاجتماعية خلال هذا اللقاء.
“المساء”: بداية، هل يمكنك أن تقدمي بطاقة فنية عن زهرة قاصد؟ المحللة الاجتماعية زهرة: بدأت حياتي المهنية بمعهد التكوين كأستاذة مكونة، إذ تكون على يدي العديد من الأساتذة، كوني خريجة معهد التكوين، متحصله على العديد من الشهادات المتعلقة بالتعليم الابتدائي، المتوسط والثانوي، وكذا متخصصة في التكوين إلى سنة 1996 عندما أغلقت آخر المعاهد التكنولوجية المكلفة بالتكوين، وكنت بذلك واحدة من آخر المكونين المتخرجين كمكونة للأساتذة، مما يعني أنني أملك اطلاعا عميقا بكل ما يخص الأمور البيداغوجية، كما أنني عصامية أحب كثيرا البحث في القضايا التي تهم المجتمع، أقدم بحوثا مختلفة وأقترح حلولا علاجية بأسلوب بيداغوجي علمي.
ما الذي حدث بعد أن تم إغلاق المعاهد التكنولوجية؟ في الواقع، أدى إغلاقها إلى إحداث صدمة هزت قطاع التربية ككل، لأن هذه المعاهد كانت بمثابة الإشعاع الذي يتكفل بحل كل مشاكل قطاع التربية التي نعاني منها اليوم، كتكوين أساتذة في علم النفس، التشريع، التربية العامة والخاصة، أي كطرق، منهجية المادة وتعليميتها، وعليه فإن غلق هذه المعاهد قسم التربية إلى قسمين، وكنتيجة فإن كل المشاكل التي تطرح اليوم؛ كعدم قدرة الأستاذ على التحكم في سلوك التلاميذ، ومواجهة صعوبات في تلقينهم بعض المعلومات، تعود إلى افتقار هؤلاء للتكوين في مثل هذه المعاهد.
حدثينا أكثر عن تجربتك في التعليم؟ بعد إغلاق المعاهد التكنولوجية التي كنت أشرف فيها على تكوين الأساتذة، توجهت مباشرة إلى التعليم، حيث أدمجت في الطور الثانوي، بعدها صدرت تعليمة من الوزارة مفادها ترقية الأساتذة المكونين إلى رتبة مفتشين، ومنه التحقنا بالتفتيش في الطور الثالث للمتوسط، بعدها دخلت الحياة المهنية كمفتشة، حيث تكونت بمعهد الحراش في مجال التفتيش وكنت من الأوائل، وكان أول تعيين لي كمفتشة بولاية تيزي وزو، أين عملت لمدة ثلاث سنوات، ولا أخفي عنكم أن هذه المرحلة كانت أجمل مرحلة في حياتي المهنية، لأنني عملت على تغيير بعض الذهنيات التي حاولت تثبيط عزيمتي، كانت الولاية تعاني من بعض التشويش الاجتماعي، وأسندت لي أربع مقاطعات، كلها جبلية، وأتذكر يوما أن مدير التربية استدعاني وقال لي: عليك أن تحتاطي عندما تقصدين المؤسسات الواقعة بالجبال”، غير أنني لم آبه للأمر وقصدت المدارس، إذ سويت الوضعية المهنية للعديد من الأساتذة بترسيمهم، بعدها استدعيت من جديد من طرف مدير التربية الذي قال لي: “لقد أزلت خيوط العنكبوت التي كانت عالقة بتلك المؤسسات”... وقتها كنت في طور التكوين في مجال التفتيش، بعدها رُسّمت كمفتشة بمقاطعة تيزي وزو.
كيف تقيّمين تجربتك كمفتشة بمقاطعة تيزي وزو؟ في الحقيقة، قيل لي أنني استطعت خلق ديناميكية وفككت العزلة عن المؤسسات التربوية، وتحديدا تلك الواقعة بالجبال، كما تمكنت من خلق جو عمل أسري وتعليمي، وكان تكوين الأساتذة الذين أشرفت على متابعتهم تكوينا نوعيا، بعدها طلبت الدخول إلى العاصمة، على اعتبار أنها الأقرب بالنسبة لي، واليوم أعمل في المقاطعة الشرقية ببوروبة، باش جراح، كمفتشة أيضا.
ما هي الذكرى التي ظلت عالقة بذاكرتك؟ أذكر أنني خلال أسبوع امتحانات الترسيم بمقاطعة تيزي وزو، تعرضت لحادث سير مروع، كل من شاهد السيارة أجزم أن صاحبها لا يمكنه العيش، غير أنني بعد الحادث مباشرة خرجت من السيارة، بعد أن زالت عني الصدمة ظنّت مصالح الدرك التي كانت متواجدة في موقع الحادث، أنني من المارة الفضوليين، وبعد أن أفصحت لهم عن هويتي، تفاجؤوا بالنظر إلى حال السيارة وكيف خرجت منها دون أن يصيبني خدش، غير أن ما ظل عالقا في ذاكرتي، الطريقة التي أبقيت بها على المحفظة التي تحوي وثائق الترسيم في يدي خوفا من ضياعها، لأن الأساتذة كانوا في انتظارها، وقتها أدركت بما لا يدع مجالا للشك أنني خلقت لخدمة المنظومة التربوية، لأنني في اليوم الموالي قصدت المدرسة بأعالي جبال تيزي وزو وقمت بعملي كما يجب.
ماذا أضافت زهرة إلى قطاع التربية؟ بكل تواضع ركزت خلال فترة التفتيش بالعاصمة شرق، على أهمية التكوين النوعي للأساتذة بالاعتماد على أحدث طرق التكوين، وكونت أيضا نخبة من الأساتذة لديهم تكوين نوعي، ومن جهة أخرى، أدرجت تقنية الخريطة الذهنية التي يقصد بها تقنية تعتمد على تشجير الدروس، أي أن يقدم الدرس على الصور الحائطية، حيث نلخصه بطريقة نقترب فيها لمعرفة كيف يتعامل الشقان الأيمن والأيسر للمخ مع المعلومة، وبالتالي الوصول إلى إيقاظ مخ المتمدرس، وعموما تعتبر هذه التقنية فرنسية اخترعها الأستاذ “بوزون”، ودخلت حديثا إلى الجزائر، غير أنها لم تستغل كما يجب، ولأنني أقوم بالبحث العلمي، بحثت عنها وطبقتها بمقاطعتي، واليوم تقوم وزارة التربية بتسطير برنامج تكوني في الخريطة الذهنية.
ما الذي جعلك تفكرين في إدراج الخريطة الذهنية بالبرنامج الدراسي؟ غيرتي على منهجية التعليم ومستوى التلاميذ، ورغبتي في محاربة الضعف، كل هذا دفعني إلى إدراج الخريطة الذهنية، وأشير أيضا في هذا الإطار إلى أن الإصلاح لم ينجح بنسبة مائة بالمائة لأن المكون لم يجد من يكونه حتى يتولى بدوره تكوين الآخرين، ومن ثمة، فالمشكل الذي نعانيه اليوم هو ضعف التكوين، وحتى المقاربة بالكفاءة لم تنجح بعد، والباكالوريا منذ عام 2002 إلى يومنا هذا لم تقدم وضعية إدماجية، أي أن باكالوريا اليوم تشبه باكالوريا الأمس، وتظهر أهمية المقاربة بالكفاءات في كونها تعطي كفاءة للتعليم عن طريق اعتماد استراتيجية معينة، ومن الخطأ القول بأن المعلم مكون وموجه وليس ملقن، بل بالعكس، لابد على المعلم أن يلقن الكفاءة للتلميذ.
في رأيك، ما الذي ينبغي التأكيد عليه اليوم لمواجهة المشاكل التي يعانيها قطاع التربية؟ ألح اليوم على إعادة فتح معاهد التكوين إن كانت وزارة التربية ترغب في الخلاص، لأنني أرى أن كل مشاكل التعليم سوف تتلاشى بفضل المعاهد، لأن المعلم إذا كان متخرجا من هذه المعاهد يكون متسلحا نفسيا، بيداغوجيا، تعليميا، تشريعيا وقانونيا، وبالتالي يكون قادرا على مواجهة التحديات التي تحملها المدرسة، بدليل أن الأساتذة اليوم يتم توظيفهم مباشرة بعد التخرج، مما يصعب عليهم مهمة السيطرة على التلاميذ.
إذن ترين بأن أساتذة اليوم لا يتمتعون بالكفاءة اللازمة؟ في الواقع وبغض النظر عن بعض الأساتذة العصاميين الذين يحبون تطوير أنفسهم بالبحث والاطلاع، نجد أن ثمة فئة أخرى ترفض التطور وتكتفي بالشهادة المحصل عليها، لذا نجد بأن الأساتذة الذين حصلوا على شهادة وتكوين بالمعاهد أقوى بكثير من أولائك الذين لم يخضعوا للتكوين.
كيف تقيّمين إذن المنظومة التربوية في ظل ما شهدته من إصلاحات؟ المنظومة التربوية تحتاج إلى إصلاح داخل إصلاح، وهو ما يعمل عليه وزير التربية، السيد بابا أحمد اليوم، وأعتقد أن المنظومة التربوية لا تزال بحاجة إلى العديد من الإصلاحات، منها ما يخص السند التربوي أي الكتاب الذي يحتاج منا إلى مراجعة، فبالنسبة لكتابي السنة الثالثة والرابعة لا تزال الأخطاء واردة فيهما، إلى جانب مراجعة التوقيت والمنهاج الذي ينبغي أن يتماشى والنمو العقلي للتلميذ، إذ نجد بعض الكتب لا تساير قدرات الطفل العقلية، ناهيك عن طول المناهج ببعض المقررات الدراسية، على غرار كتاب السنة الخامسة متوسط في مادة التربية الإسلامية.
ما الذي يزعج زهرة في منظومتنا التربوية باعتبارها مفتشة في هذا القطاع؟ أكثر ما يزعجني في المنظومة التربوية؛ المديرون الطفيليون الذين يسعون إلى الرفع من مكانة مؤسساتهم على حساب مصلحة التلاميذ، إلى جانب الرتبة بسبب دخول ذهنيات التحايل في النقاط، كما أكره استعمال العنف الذي لا يزال صفة تطبع العديد من المؤسسات التربوية، وأنبذ ظاهرة التحيز لفئة على حساب فئة، لذا أطالب الوزارة بكسر شوكة المديرين الذين يتلاعبون بمستوى التلاميذ التعليمي من خلال القيام بدورات تحقيق في المؤسسات التي تدعي أنها من مؤسسات النخبة وترفض تسجيل غير النجباء.
هل من كلمة أخيرة؟ كوني أمثل المنظومة التربوية، أستبشر خيرا بوزير التربية، السيد بابا أحمد، لأنه يتطلع إلى الرقي بالمنظومة التربوية في بلادنا نحو الأحسن، بدليل إلغائه لعتبة الباكالوريا، حيث أقر أنه يقع على عاتق التلاميذ دراسة كل المواد ليكونوا في مستوى الحياة الجامعية، وهو ما استبشرنا به خيرا، كما أن وزارة التربية مقبلة على تعيينات جديدة مع الدخول الاجتماعي القادم، ولأن المنظومة التربوية تشمل فئة كبيرة يغيب لديها الضمير المهني، أعتقد أن هذه التعيينات جاءت في حينها.