تونس التي شكلت مخبرا لتحريك فعاليات الربيع العربي الموجه عن بعد، تتخذ اليوم كمخبر لتفعيل مسارات الفوضى الخلاقة التي توعدت بها راس عموم العرب، والتي تريد الولاياتالمتحدة أن تدير بها العالم العربي وهي في سياق تنفذ انسحابها الإستراتيجي من المنطقة، حتى لا تمكن النظم الجديدة من إعادة الأمن والاستقرار، والتكفل بمطالب الشعوب، والانشغال داخل حلقة مفرغة من الصراع على السلطة. في اليوم الذي تحتفل فيه ليبيا بما يسميه ثوار النيتو بعيد سقوط الطاغية، كان جيرانهم التونسيون يترقبون أخبارا تخرج من لقاء رئيس الحكومة مع الموالاة والمعارضة للبحث عن مخرج للأزمة التي سقطت فيها تونس في أعقاب اغتيال القيادي اليساري بلعيد، وما تبعها من اتهام وجه لحركة النهضة بالوقوف خل حادث الاغتيال. وعلى الطرف الآخر من ثلاثي الربيع العربي في أرض الكنانة، انقسم الشارع مجددا إلى فسطاطين يتظاهران في الجمعة الألف بالمتشابه من المليونيات، التي استنفذت مواد القاموس بحثا عن تسمية جديدة، حيث دعت التيارات السلفية إلى مليونية للتنديد بالعنف، وهي تعني به ما بات يميز فعاليات الشارع المعارض من ميل للعنف، واستهداف المؤسسات الحكومية، ومليونية أخرى دعت إليها المعارضة للتنديد بعنف السلطة ضد المحتجين والمتظاهرين. تلكم في الجملة هي أحوال الثورات العربية وهي تودع عامها الثاني، ويبقى الحكم عليها ينتظر مآلها في تونس، حيث بدأت قصة الربيع العربي من حادث انتحار شاب حرق نفسه، فأشعل حريقا أوقد بؤرا في مختلف أرجاء العالم العربي. ولأن تونس تعتبر نفسها أم الثروات العربية، فإن الجميع ينظر إلى ما يجري في تونس كحقل تجربة، يقرأ في نتائجه مآلات الثورات العربية الأخرى. قبل شهور قليلة كان الإعلام العربي والغربي يثني على ثورة الياسمين التونسية، التي قيل عنها أنها كانت بيضاء عذراء، أطاحت بالطاغية بأقل كلفة ممكنة، ثم جاء الثناء عليها من حيث الخطوات السليمة التي اتخذتها النخبة السياسية، بالبدء بوضع الأسس عبر انتخاب جمعية تأسيسية لصياغة دستور جديد لتونس، وأخيرا من حيث توافق أحزاب يسارية وليبرالية مع حزب الأكثرية الإسلامي على تشكيل حكومة ائتلافية، عملت بمنطق التوافق إلى حين اقتراب موعد الانتخابات التشريعية الأولى، لتتفجر الخلافات داخل الترويكا الحاكمة وتبرز للعلن. غير أن الأزمة التونسية لم تكن فقط أزمة حكومة، ولا حتى أزمة نظام، بل هي أزمة مسار فاسد، سوق للتونسيين على أنه ثورة مؤهلة لتغيير أحوال التونسيين رأسا على عقب، تنسيهم ما تكبدوه في عصر النظام السابق المستبد وحاشية بن علي وأصهاره، وقد لبس على التونسيين الذين اكتشفوا بعد حين أن النظام لم يسقط، بل استؤصل منه الرأس وعفي عن الجسد، وأن الأحزاب التي تصدرت المشهد، بعد نجاح الحراك الشعبي، ليس في نيتها قيادة الثورة حتى استكمال أهدافها، وأنها قد اكتفت بالتمكين لأهدافها الحزبية الصرفة. الاتهام وجه تحديدا لحزب النهضة، المستفيد الأول من إسقاط بن علي، والذي تولى السلطة ودخل في مسار التمكين للحزب، بدل التمكين لأهداف الثورة، من خلال التغول والتوغل في أجهزة الدولة، والإستقواء بحالة من الفوضى الخلاقة، التي شغلت التونسيين لوقت عن محاسبة الترويكا الحاكمة عن المنجزات. ومن جهتها فإن المعارضة التي استنزفت قواها في معارك جانبية مع التيار السلفي المتشدد المتصاعد، لم تكن أفضل حال من ثلاثي الحكم، وانشغلت عن هموم المواطنين اليومية مع القوت، والأمن، والمواصلات، فلم تقدم أي بديل قد يغري التونسيين على انتظار الموعد الانتخابي لتجديد الأغلبية والحكومة. وحده رئيس الحكومة والأمين العام لحركة النهضة، قرأ المشهد على نحو سليم، وباغت الجميع بقرار لم يكن يتوقعه أحد حين أعلن، منذ أسبوع وبشكل انفرادي، عن إقالة حكومته المشكلة من الترويكا، والدعوة لتشكيل حكومة كفاءات يتولى قيادتها. القرار كان صاعقا في المقام الأول لحركة النهضة التي سارعت إلى معارضته، والقول بأن رئيس الحومة لم يستشر قيادة الحزب ولا قيادات الترويكا، وأنها لن تمنح الثقة لأية حكومة تتجاوز الأغلبية في البرلمان، وقد انقسمت الترويكا بين طرف معارض، وطرف يساند رئيس الحكومة بشروط، فيما انقسمت المعارضة بدورها، وهي في حيرة من أمرها، لعلمها أن العمل على إسقاط رئيس الحكومة الحالي قد يسمح للنهضة بتعيين رئيس حكومة من الصقور، تدخل به معترك الانتخابات التشريعية والعودة بأغلبية أكبر وربما بأغلبية تتفرد بها في البرلمان. رئيس الحكومة لم يكن ليقدم على هكذا مغامرة أدخلته في صراع مع حزبه، لو لم يتلق ضوءا أخضر صريح، من جهة تريد إعادة توجيه الأوضاع في تونس نحو وجهة ليست واضحة حتى الآن، تتجاوز حزب النهضة وشركائه في الحكم، وقد بدأت الأصابع تؤشر إلى تدخل قوى دولية وإقليمية في إرباك الوضع في تونس، بدءا بفرنسا التي لم تخف استياءها من اغتيال المناضل اليساري بلعيد، في تعبير عن استيائها العام من ضياع الكثير من نفوذها التقليدي في تونس لصالح الولاياتالمتحدة، واتهام الطرف القطري بالتدخل السافر في شؤون تونس، فضلا عن السياسة الغامضة التي تنفذها الولاياتالمتحدة في عموم دول الربيع العربي، بمحاولة إغراق التيار الإسلامي في مسلسل لا ينتهي من الأزمات ،تحمله على الاستسلام لأملاءات الولاياتالمتحدة. فمن مصر إلى ليبيا وتونس واليمن وحتى سورية، بدأ يتكشف للمحللين معالم سياسة أمريكية لعموم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تؤمن لها انسحابها الإستراتيجي من المنطقة دون الإخلال بمصالحها الإستراتجية، وهي تعول على تعميم الفوضى الخلاقة في العالم العربي، حتى تأمن من إعادة تشكيل حالة عربية قد تجدد التهديد لمصالحها، أو لمصالح حليفتها إسرائيل. ولأجل ذلك لا تريد الولاياتالمتحدة أن يخلفها في المنطقة سوى الفوضى المستديمة، والاقتتال بين القوى الإسلامية، التي غرر بها في الربيع العربي، وبين القوى الليبرالية أو القومية، في مناكفات وتهارش متواصل على السلطة. الحالة التونسية تشكل في هذا السياق مختبرا، كما كانت مختبرا لتفعيل فعاليات الربيع الذي أطاح بالرؤوس النافقة، لأن تجربة توليف أغلبية من الإسلاميين والعلمانيين، ثم قيادتها نحو الفشل كما حصل مع الترويكا في تونس، قد يقطع الطريق أمام ما تريده القوى السياسية في مصر بعد فشل تفرد الإسلاميين بالحكم, وحيث أن القوى الوطنية، الليبرالية واليسارية في تونس ومصر، ليست مؤهلة حتى الآن لانتزاع القيادة عبر الصناديق، والقوى الإسلامية غير مؤهلة لقيادة الدولة بمفردها، فإن إفشال التحالف الحاكم في تونس هو إغلاق لباب نجاة، كان من الممكن أن يوفر حلا للوضع المسدود في مصر, وفي الجملة فإن الضغوط التي تمارس على الحكام الجدد، كما عل القوى المعارضة، لمنعها من الدخول في حوار وطني مثمر، سوف تنتج حلقة مفرغة تنساق إليها القوى السياسية المشكلة، تطيل من عمر المرحلة الانتقالية، وتبقي على النظم في حالة مزرية من الهشاشة وعدم الاستقرار، الكفيلة بإبقاء السيطرة الأمريكية عن بعد، وتبقي على حاجة الأنظمة المنبثقة عن الربيع العربي إلى رضا ودعم البيت الأبيض، بكل ما يرافقهما من تبعية وخضوع للإملاءات. وحده الوضع الاجتماعي المتردي بسبب انهيار قطاعات قاطرة للاقتصاد في كل من تونس ومصر مثل قطاع السياحة، وما يبشر به من ثورات منفلتة للجياع والمحرومين، يشكل تحديا فارقا، ليس فقط للنظم الجديدة بل أيضا لكبير السحرة الذي يعبث بالعالم العربي عن بعد.