أصبحت الدولة هي الأساس في قيام المجتمعات الحديثة، التي صارت تعتمد على البعد السياسي أكثر من اعتمادها على البعد الثقافي، في عملية ضبط سلوك أفرادها ومؤسساتها. وصارت الدولة مجموعة كبيرة من المؤسسات التي تدير وتتحكم في الكثير جداً من فعاليات المجتمع ونشاطاته، ولم تعد مجرد قوة قمعية خارجية بالنسبة للمجتمع بل أداة لاحتواء النشاطات الاجتماعية المختلفة. ومرة أخرى يعود الحديث عن سلوكنا خارج المكان المغلق وكيف رجعنا إلى النقطة الأولى وهي لا مفر من انتهاج السلوك الصحيح تجاه الجامد والمتحرك، والقانون الجديد للمرور هو بمثابة الخطوة المنسية التي لم نقف عندها في تطبيق كل القوانين التي سلفت رغم أنها نقطة فاصلة ومهمة في تغيير صورة مدينة أصبحت تشبه كل شيء إلا المدينة ..... كيف نجعل مدننا أكثر دفئا وأمانا؟ وكيف تكون أمكنة ننتمي إليها وننسب أنفسنا إليها؟ وكيف تكون الحياة فيها أكثر راحة واستقرارا؟ هناك إجماع أن أنماط السلوك الخاطئة مردها إلى ضغوط الحياة المرتبطة بالمدينة، وهي مقولة مضللة برغم صحتها! وهذه إشكالية في الفهم والتحليل لأن الفكرة الأكثر صوابا هل يوجد صواب؟ هي محصلة معادلة من الأفكار المتناقضة أحيانا ولكنها في تفاعلها ووضعها في منظومة منهجية للتفكير تقترب من الصواب، فليس هناك من يدعو إلى التخلي عن السيارات واستخدام الجِمال والخيل لأنها سبب حوادث المرور التي تحصد أرواح الآلاف كل سنة. وإصلاح المدن على النحو الذي يحمي من الضغوط والأزمات والمشكلات ليس قرارا واحدا كبيرا، ولا خطة تدخل سريع ولا حتى سلسلة من الإجراءات والتشريعات برغم أهميتها وضرورتها، ولكنها محصلة أنساق متراكمة من الإنجازات والحلول الصغيرة المرتبطة ببعضها ارتباطا وثيقا ومتداخلا يجعل غياب أي جزء صغير يؤدي إلى أزمة مناظرة أو يعطل جزءا كبيرا جدا من المنظومة الكلية، تماما كما يؤدي سقوط حلقة صغيرة أو مسنن ضئيل في سيارة أو ماكينة إلى توقفها، ويقال في المثل الشعبي ''الجمل يعرج من أذنه''، وهي مقولة صحيحة تعبر عن تجربة مهمة في الحياة والتفكير. وربما يكون أهم نسق في إصلاح المدن والحياة فيها مستمد من تصحيح أسلوب حياتنا وعلاقاتنا ضمن مجموعات بعضها صغير وبعضها كبير، لكنها في تراكمها تنشئ منظومة جديدة ومختلفة من الحياة والعلاقات والمؤسسات وطرق العمل وقواعدها تجعل الحياة أكثر سلاما وانسجاما وتحمي الأفراد والمجتمعات من الأزمات المختلفة. الواقع أن أسلوب الحياة أكبر من ذلك وأهم بكثير، لأنه يمثل المرجعية الحاكمة للتشريعات والقرارات والسياسات والاستراتيجيات الكبرى المفترض أن تنظم الحياة والمصالح وفق فلسفة أسلوب الحياة الذي نتبعه. فواقع الأمر أن جميع المنظومات الكبرى للإدارة والحياة. هل يجب أن نغير أسلوب حياتنا أم نغير المنظومة المؤسسية التي تدير حياتنا ليكونا منسجمين؟ هل يعكس تصميم الشوارع والأحياء في المدن فلسفة لدينا في الحياة قائمة على منع وخطورة خروج الأطفال من البيوت إلا ضمن رفقة؟ وهل يأتي توزيع المدارس الأساسية والثانوية في المدن ضمن وجهة نظر في تخطيط الأحياء وتقسيمها؟ وهل تعبر الحدائق العامة في توزيعها وعددها عن وجهتنا وأسلوبنا وإقبالنا على ارتياد الحدائق واستخدامها ورغبتنا في وجودها أو عدم وجودها؟ أسئلة طرحتها وأنا أتأمل جمعا كبيرا من الراجلين يقطعون الطريق في شكل أشعة في كل الاتجاهات وكيف يمكن للقائم على حركة المرور أن يطبق القانون أم أنه يترصد الحالات المنفردة لنجعلها موعظة للآخرين؟