في الرابع من يناير/كانون الثاني الماضي نشرت أوبزرفر البريطانية تقريرا لم ننتبه إليه في حينه، ذكر أنه مع بداية الحرب على غزة بادرت الحكومة الإسرائيلية إلى إنشاء إدارة خاصة للتأثير على وسائل الإعلام المختلفة، رأسها السفير الإسرائيلي السابق لدى الأممالمتحدة دان جيلرمان، وعاونه في مهمته ممثلون عن وزارتي الخارجية والدفاع ومكتب رئيس الوزراء إضافة إلى الأجهزة الأمنية التابعة للجيش والشرطة. أضافت الصحيفة أنه ما إن بدأت الحرب حتى بادر فيض من الدبلوماسيين ومجموعات الضغط والمدونات الإلكترونية ومختلف العناصر المؤيدة لإسرائيل بإغراق وسائل الإعلام المختلفة بسلسلة من "الرسائل" التي تمت بلورتها بدقة مسبقا. وكان هدف الجميع هو تبرير الموقف الإسرائيلي والدفاع عنه. هذا الجهاز كانت مهمته الحقيقية هي الكذب والتدليس ومحاولة التستر على الوجه القبيح للحرب الإجرامية بالادعاء تارة بأن ما أقدمت عليه إسرائيل كان دفاعا عن النفس (وهو الموقف الذي انحاز إليه الكونغرس ودول الاتحاد الأوروبي) وتارة أخرى باتهام حماس بأنها التي خرقت الهدنة وأن صواريخها هي التي تسببت في إغلاق المعابر وحرمان سكان القطاع من احتياجاتهم المعيشية. ومن أشهر الادعاءات التي روج لها الجهاز أيضا أن إسرائيل لا تستهدف الفلسطينيين وإنما تريد وقف "الإرهاب" الذي تمارسه حماس، وأنها في الوقت ذاته تريد ضرب "النفوذ الإيراني" الذي وصل إلى غزة في وجودها. هذه الأكاذيب استفَّزت اثنين من الباحثين الغربيين المحترمين، فتصديا لتفنيدها وكشف الغش والخداع فيها. كان أولهما اليهودي الأميركي هنري سيجمان الذي نشر مقالا تحت عنوان "الأكاذيب الإسرائيلية" في مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس" (29 /1). أما الثاني فهو الفرنسي دومينيك فيدال الذي نشرت له مجلة "لومند دبلوماتيك" (عدد أول فبراير/شباط) مقالا تحت عنوان "كلما كانت الكذبة كبيرة". موقف المقالين واضح في عنوانيهما، أما مضمونهما فقد كان كاشفا ومفحما، ومن ثم فاضحا للكذب والإجرام الإسرائيليين.
(2)
هذه الخلفية تستدعى ملاحظتين، أمر بهما بسرعة قبل أن أصل إلى مقصود الكلام ومراده. الملاحظة الأولى تفاجئنا وتفجعنا في ذات الوقت، وهي أن الإعلام المصري الرسمي والسعودي بوجه أخص ومعهما عدد من المثقفين العرب وقعوا في الفخ، وكانوا في مقدمة الذين تأثروا بحملة الجهاز الإعلامي الإسرائيلي بدرجة كبيرة، حتى أتمنى أن يفرغ أي باحث بعض الوقت لرصد عناوين وأخبار وتعليقات الصحف الصادرة في فترة الحرب على غزة ليكتشف مدى تأثرها بتلك الحملة. وللتذكير فقط فإن إعلامنا وبعض مسؤولينا هم الذين لم يكفوا طول الوقت عن ترديد الادعاء الذي أثبت المقالان اللذان أشرت إليهما كذبه، والقاضي بأن حماس هي التي خرقت التهدئة، وهم من شدد من الحملة على حماس بأكثر مما تضامنوا معها في مواجهة العدو الإسرائيلي، وهم من ظلوا يوحون بأن حماس أداة في يد إيران وجزء من المشروع "الفارسي"، حتى إن مسؤولا مصريا ذهب في تصديقه لهذه الدسيسة إلى حد ادعائه أن إيران بوجودها المزعوم في غزة أصبحت ترابط على الحدود المصرية! الملاحظة الثانية أن ما أقدمت عليه إسرائيل أثناء الحرب على غزة ليس اختراعا جديدا، ولكنه أسلوب متعارف عليه في الصراعات الدولية، التي أصبحت الحرب النفسية إحدى جبهاتها الأساسية. وهو ما يوثقه باقتدار كبير كتاب "الحرب الباردة الثقافية" لمؤلفته فرانسيس ستونز سوندرس (ترجمه إلى العربية طلعت الشايب)، الذي كان موضوعه الأساسي تتبع الدور الذي لعبته المخابرات المركزية الأميركية في التصدي للاتحاد السوفياتي والشيوعية في مجالي الفنون والآداب، وكيف أنها نشطت في تلك الساحة عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومنذ إنشاء المخابرات في عام 1974 كانت الصحف والكتب والإذاعات والحفلات الموسيقية والعروض الفنية المختلفة هي وسيلتها إلى ذلك. ومن بين الواجهات التي أقامتها المخابرات المركزية "كونغرس الحرية الثقافية" (عام 1950) الذي تحول لاحقا إلى "الاتحاد الدولي للحرية الثقافية" وأنشأ فروعا في 35 دولة، كما أصدر أكثر من عشرين مجلة ثقافية محترمة في مختلف أنحاء العالم، كانت كلها تروج للنموذج الأميركي وتنفر من الشيوعية. كما كانت المخابرات الأميركية وراء إنشاء "نادي القلم الدولي" في منتصف الستينيات الذي مد أذرعه إلى 55 دولة وأسس فيها 76 فرعا، كانت كلها ذات أنشطة "ثقافية" استهدفت كسب معركة واشنطن ضد موسكو.
(3)
في أول فبراير/شباط الماضي نشرت صحيفة "الشروق" مقالا للدكتور محمد السيد سليم أستاذ العلوم السياسية كان عنوانه "الحرب على غزة أو العدوان بالمصطلحات"، عرض فيه للفكرة التي نحاول إبرازها هنا، حيث دعا الجميع إلى ضرورة التدقيق في المصطلحات التي يسربها الغربيون والصهاينة إلى خطابنا الإعلامي والسياسي، سواء للتغطية على الاحتلال أو لإضفاء شرعية عليه. وأشار في مقاله إلى أن الحرب بالمصطلحات في الوطن العربي بدأت مع زيارة هنري كيسنجر للمنطقة في عام 1973، حيث استخدم لأول مرة مصطلح "عملية السلام" في الشرق الأوسط، الذي لم يكن يعني إقامة السلام بقدر ما يعني عقد سلسلة من الإجراءات المتتالية تنتهي بإقرار السلام يوما ما. قد يجيء أو لا يجيء (بدليل أنها مستمرة إلى الآن ولم يتحقق من السلام شيء). وكانت النتيجة أن "العملية" بمعنى المفاوضات والمشاورات والجولات الأميركية استمرت، لكن السلام لم يتحقق. قس على ذلك مصطلحات أخرى عديدة ظاهرها يوحي بشيء في حين أنه يضمر شيئا آخر. فإسرائيل لا تنسحب مما تزعمه أرضا لها في سيناء، ولكن ذلك يعتبر من جانبها مجرد "إعادة انتشار" أو فض اشتباك. كما أن "المستوطنات" وصف خداع أريد به تجميل وجه المستعمرات. والتطبيع مصطلح خبيث وملتبس، لأن العلاقات الطبيعية بين الدول تحتمل معنيين أحدها يقوم على التعاون السلمي والثاني قد يكون صراعيا، لكنه في المناخ الراهن أصبح ينطبق على حالة واحدة هي التعاون السلمي، الأمر الذي يعتبر المقاومة سلوكا "غير طبيعي".. وهكذا. الملاحظة المهمة التي خلص إليها الدكتور سليم من استعراضه لنماذج اللعب بالمصطلحات في الصراع العربي الإسرائيلي بوجه أخص هي أن اللغة تستخدم كأداة للتضليل والإبهام وليس كأداة للتوصيل. بمعنى أن المصطلحات المستخدمة عادة ما تخفي في طياتها أهدافا شريرة، في حين يبدو ظاهرها بريئا وناعما. وهو ما ينطبق على قائمة طويلة من المصطلحات التي أصبحت تتردد على ألسنة مسؤولينا وتتناقلها وسائل إعلامنا كل يوم.
(4)
خذ مثلا مصطلح "التهدئة" الذي أشرت إليه في مقال سابق. إذ استخدم في مطالبة المقاومة بتجميد حقها في الدفاع عن نفسها في مواجهة الاحتلال، ومن ثم وقف إطلاق الصواريخ ضد العدو، مقابل فك الحصار عن قطاع غزة، ولأن المصطلح لا أصل له في القانون ولا في الأعراف الدبلوماسية، فقد عملت إسرائيل على "تفصيله" في ضوء موازين القوة الراهنة، بحيث تصبح التهدئة واجبا يلزم المقاومة الفلسطينية وحدها ولا يلزمها هي في شيء، باعتبارها الطرف الأقوى عسكريا. وكانت النتيجة أن صورايخ المقاومة سكتت في حين استمر الحصار وتواصلت عمليات التصفية التي قامت بها إسرائيل في القطاع.المدهش في الأمر أن فصائل المقاومة حين قالت إنها لا تقبل بالالتزام بالتهدئة في ظل استمرار الحصار والعدوان، فإن بعض العواصم والأبواق العربية توجهت إليها باللوم والاتهام. خذ كذلك تلك الدعوة الغريبة إلى الوقف الدائم لإطلاق النار، التي تبدو في ظاهرها إعلانا عن الرغبة في إحلال السلام والوئام في فلسطين، قد تلقى ترحيبا وأذنا صاغية في الأوساط الغربية، إلا أنها تعبر في جوهرها عن درجة عالية من الصفاقة، ذلك أنها تطالب المقاومة بإلقاء سلاحها والاستقالة من دورها و"نبذ" فكرة تحرير البلد من الاحتلال. خذ أيضا مصطلح "وقف تهريب السلاح" إلى غزة، وهي الدعوة التي أطلقتها إسرائيل مؤخرا، وحركت لأجلها الدول الغربية التي استنفرت لهذه الغاية، وتنافست في إرسال سفنها وبوارجها لمراقبة مختلف المنافذ التي يمكن أن يصل منها السلاح إلى القطاع. وهي دعوة خبيثة لا نفهم كيف مررتها العواصم العربية وسكتت عليها. ووجه الخبث فيها واضح. ذلك أنها تعني حرمان المقاومة الفلسطينية من حقها في الدفاع عن نفسها لتحرير الأرض المحتلة، الذي كفلته لها كافة المواثيق والاتفاقات الدولية. ثم إنها تخدع الجميع موحية لهم بأن المشكلة في فلسطين هي تهريب السلاح وليس الاحتلال الذي اضطر الناس إلى الحصول على السلاح بكل السبل لمقاومته. خذ أيضا مسألة "المجتمع الدولي" الذي دعا أبو مازن إلى ضرورة استجلاب موافقته على أي حكومة وطنية تتشكل في فلسطين، ويلحق به مصطلح "الشرعية الدولية". وكل منهما لا يخلو من رنين جذاب، لكنه عند تفكيكه لا يعدو أن يكون إرادة أميركية تحركها المصالح والحسابات الإسرائيلية. (للعلم فإن حق مقاومة الاحتلال بكل السبل يستند إلى الشرعية الدولية وكذلك قرار محكمة العدل الدولية ببطلان إقامة الجدار والمستوطنات في الأرض المحتلة. وقد أورد عدد أول فبراير/شباط من مجلة "لومند دبلوماتيك" قائمة ب35 قرارا لمجلس الأمن والجمعية العامة انتهكتها إسرائيل أو رفضتها). هذان المصطلحان يفقدان حجتيهما وهيبتيهما حينما نكتشف أنهما يشكلان غطاء للمطالب الإسرائيلية في الاعتراف بها وبمنع المقاومة والإقرار بالتنازلات التي سبق تقديمها لإسرائيل. ومن حقنا في هذه الحالة أن نطالب بتنفيد كل قرارات الشرعية الدولية الأخرى، بغير انتقاء أو استعباط. خذ أخيرا مصطلح "الدول المعتدلة"، التي ما برح الإسرائيليون يتحدثون عن التعاون معها والحفاوة بها في العالم العربي، حتى دعت وزيرة الخارجية تسيفي ليفني إلى مساندتها في لقائها في 26/2 مع المبعوث الأميركي جورج ميتشل. ذلك أن مصطلح الاعتدال يفقد براءته ونزاهته حين يصبح شهادة إسرائيلية لبعض الأنظمة العربية، الأمر الذي يسوغ لنا أن نقول إنه إذا كان مقتضى الاعتدال موالاة الإسرائيليين ومن لف لفهم من الأميركيين ومن ثم التنكر للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، فإن الوطنيين والشرفاء يجب أن يترفعوا عنه، وأن ينخرطوا في صف "التطرف" الذي يريدون به وصم المقاومة والممانعة. لقد هزمت نظمنا في الفعل، وحظها في القول كما رأيت، الأمر الذي يحولها من ظاهرة صوتية إلى ظاهرة جغرافية لا أكثر.