كحال القمم العربية السابقة، يبدو التساؤل ملحا ويفرض نفسه فرضا: هل تنجح قمة الدوحة في إخراج العرب من عنق الزجاجة الذي يبدو آخذا في الضيق والإحكام، أم ستكون قمة عربية أخرى شأن سابقاتها التي اتخذت قرارات وعجز العرب عن تطبيقها؟السؤال ليس جديدا، فهو متكرر، وتكراره يعكس حالة القنوط العربية العامة بين الرأي العام والمجتمعات المدنية والسياسيين، ويجسد قدرا من الإحباط المسبق، أو لنقل نوعا من الزهد السياسي في المستقبل وفي قيمة القمم العربية خاصة.فكل قمة كان يسبقها الكثير من المناوشات والانقسامات الحقيقية أو المفتعلة، فضلا عن القضايا الضاغطة الموروثة منذ عقود سابقة أو المتجددة بفعل اللحظة الزمنية. وليس بخاف أن الشعور العربي العام هو أن هذه القمم لم تفد في السابق فكيف يمكن أن تكون مفيدة في الراهن. لايقين الحاضر والغائب وضع الأيام السابقة مباشرة على انعقاد قمة الدوحة ليس غريبا، فهناك أسئلة تطرح نفسها، من قبيل من سيحضر ويشارك، ومن سيعتذر أو قد لا يعتذر، أو قد يرسل وفدا أقل من الرئيس أو الملك، فضلا عن سؤال جديد عمن سيحضر من غير العرب، هل سيكون هناك رئيس إيران أم رئيس تركيا أو رؤساء وممثلون آخرون لهذا البلد أو ذاك.وحتى أسبوع من موعد القمة لا توجد إجابة شافية في الغالب. اللهم إلا تصريح لعمرو موسى يقول فيه إننا لسنا في احتفالية ومن سيحضر هم أمناء المنظمات الإقليمية والدولية، أو بمعنى آخر ليس هناك مجال لرؤساء دول غير عربية لحضور القمة. ومع ذلك فالأمر لا يبدو محسوما بعد والمفاجآت واردة.مفاجأة حضور قادة غير عرب إن حدثت فلن تقارن من حيث التأثير والدلالة إن حضر الرئيس السوداني عمر البشير وشارك في أعمال القمة. ثم الأهم أن يعود سالما إلى بلاده. فحجم المفاجأة مرهون بحجم الحدث ومعناه.فالرئيس السوداني أحد أكثر الرؤساء العرب الحريصين على المشاركة في القمم العربية، ومشاركته في قمة الدوحة سترسخ معاني التحدي السوداني والعربي لقرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله. وإن لم يشارك فلن يكون محل لوم أحد، فالرجل يخضع الآن لضغوط شديدة وفي اتجاهات عدة، والكثير منها في داخل بلاده يطالبه بعدم السفر للخارج سواء للدوحة أو لغيرها حرصا على استقرار البلاد وعدم وقوعها في محظور الاضطرابات إن اختفى رأس السلطة بطريقة مشينة.هكذا حالة اللايقين بشأن الحاضرين المؤكدين والغائبين المحتملين باتت عادة عربية، رغم أن دورية القمة تفترض أن يكون كل شيء شفافا، ظاهره كباطنه. لكن يبدو أن العرب لم يعتادوا بعد التخطيط المسبق والوضوح الكافي.فثمة بُعد ثقافي له جذوره في العلاقات العربية يميل إلى المفاجآت والأخذ بالأحوط والانتظار إلى الدقيقة الأخيرة لتحديد الموقف النهائي أو ما قبل النهائي، مما يوفر ظرفا للاعتذار أو الهروب للأمام أو إرباك الآخر، أو كل هؤلاء معا. هدوء ما قبل المصالحة العربية في حالة قمة الدوحة المقبلة، يلاحظ المراقب نوعا من الهدوء النسبي في التعاطي مع القمة مقارنة بقمم عربية سابقة شهدت كل أنواع الصخب السياسي والضغوط الشديدة فكان مجرد انعقادها انتصارا كبيرا كما كان الحال في قمة دمشق العام الماضي. ويقينا ثمة علاقة بين هذا الهدوء غير المعتاد عربيا وبين ما بات يعرف بملف المصالحة العربية، التي بدأت أولى خطواتها في قمة الكويت الاقتصادية بدعوة من الملك عبد الله عاهل السعودية من أجل لم الشمل العربي، حيث اجتمع صاحب الدعوة وكل من قادة مصر وسوريا وقطر والكويت في مقر إقامته لإيجاد مخرج لحالة البرود في علاقات هذه الدول والخروج من حالة المحاور الواقعية التي طبعت علاقاتهم في العامين الماضيين ووصلت إلى ذروتها إبان العدوان الإسرائيلي الهمجي على قطاع غزة المنكوب.حين بدا قطار المصالحة العربية هكذا، شك كثيرون في جدوى الاجتماع، لم يتوقعوا الكثير، اللهم إلا نوعا من التهدئة الإعلامية. وحين مر القطار على محطة قمة الرياض التي جمعت قادة السعودية ومصر وسوريا والكويت، ظهرت حدود المصالحة في كونها طريقة لإدارة الخلافات وفقا لما طالبت به سوريا، فيما يعنى أن الخلافات سوف تستمر، وأن المطلوب هو نوع من التعايش معها وقبول كل طرف للآخر على حالته وطبيعته، وألا ينتظر طرف أن يتغير الآخر أو يأخذ مبادرات تراعي توقعات الآخرين، أو هكذا بات مفهوما، رغم أن بيان القمة الذي أعلنه وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل تحدث عن عملية تؤدي إلى دفن الخلافات العربية إلى غير رجعة. التعايش مع الخلافات له مردوده الإيجابي بلا شك، حيث لا تصعيد ولا مزيد من التوتر الإعلامي أو السياسي، لكن حدود كهذه تعني في المحصلة الأخيرة أن يبقى الحال على ما هو عليه في أفضل الأحوال، وألا يتطور إلى الأحسن.والأخير، أو الأحسن، يعني أمورا عديدة منها أن يُعاد بناء وتشكيل ما عُرف سابقا في عمر النظام العربي الرسمي بحقبة السبعينيات من القرن الماضي بالتكتل الثلاثي الذي جمع كلا من مصر وسوريا والسعودية، وشكل محورا لقيادة النظام الرسمي وحقق إنجازات مشهودة في حينه. ملفات ضاغطة وحاسمة العودة إلى مثل هذا الطموح، أي التكتل الثلاثي، لا يبدو ممكنا في ظروف اللحظة الزمنية الجارية، ليس لأن أطراف التكتل الثلاثي القديم لا يريدون قيادة النظام الرسمي، أو أنهم يزهدون في مثل هذه المسؤولية، بل لأن واقع الحال يختلف تماما عما كان في الماضي.فحسابات كل طرف تختلف تماما عن حسابات الأطراف الأخرى في أكثر من ملف مهم وضاغط في الآن نفسه. وتشمل هذه الملفات الضاغطة: أولا: العلاقة العربية الجماعية مع إيران ومستقبلها في ظل بوادر انفراج نسبى في السياسة الأميركية ناحية طهرانودمشق، بكل ما يعنيه ذلك من دلالات ومسؤوليات ومكاسب مرجحة للبعض وخسائر للبعض الآخر. ثانيا: ملف المصالحة الفلسطينية التي ما زالت متعثرة، إلى حد أن القاهرة أجلت دعوة الفصائل إلى مطلع أبريل/نيسان المقبل، مما يرجح أن ملف المصالحة الفلسطينية عليه انتظار قمة الدوحة وما سيخرج عنها من قرارات وتسويات عربية شاملة. ثالثا: المصالحة العربية نفسها بكل ما فيها من إعادة بلورة إستراتيجية عربية أكثر وضوحا بشأن المبادرة العربية للسلام، في ظل مجريات الأحداث في إسرائيل وتشكيل حكومة يقودها اليمين المتطرف الرافض لحل الدولتين والمندفع نحو عمليات استيطان واسعة المدى في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية عامة، وفي القدس خاصة. رابعا: مستقبل العراق في ضوء القرار الأميركي بالانسحاب في غضون عامين على الأكثر، وما سيترتب على ذلك من مسؤوليات عربية لتوفير مظلة حماية ومساعدة سياسية واقتصادية وأمنية لليوم التالي للانسحاب. خامسا: ملف السودان واحتواء تداعيات مذكرة الجنائية الدولية باعتقال الرئيس البشير، وسد الفجوة الإنسانية في إقليم دارفور وتحفيز جهود التسوية السياسية بين الحكومة وجماعات التمرد. سادسا: ملف الأزمة الاقتصادية الدولية، وتداعياتها السلبية الآخذة في الظهور تباعا على كل البلدان العربية دون استثناء، فقيرها وغنيها معا، واتخاذ القرارات العملية المناسبة لتطبيق ما اتفق عليه في قمة الكويت الاقتصادية.ويمكن أن نضيف أيضا ملفا سابعا يخص الصومال في ضوء المصالحة التي أتت بشيخ شريف أحمد رئيسا للبلاد، ورغم انتمائه السابق للمحاكم الإسلامية، ووقوف قوى إقليمية وراء هذه المصالحة، فإنها ما زالت بحاجة إلى عون واسع ومستمر لفترة طويلة مقبلة حتى تؤتى ثمارها وتنهى معاناة الصوماليين. وهنا يأتي دور العرب ومسؤوليتهم القومية والإسلامية.بعض هذه الملفات، لاسيما من الرابع إلى السابع -رغم ما فيها من تحديات وإشكاليات سياسية وقانونية وعملية- قد لا يشكل مصدرا مهما لخلافات عربية كبرى، والمرجح أن تصاغ لها سياسة عربية ذات طابع إجماعي توافقي.فمن غير المتصور مثلا أن يختلف العرب على مساندة السودان في محنته الراهنة، وربما يكون مخرج مؤتمر دولي وعربي لحل مشكلة دارفور العنوان الذي يتفق عليه العرب في الدوحة مع وضعه في إطار أكثر إحكاما، جنبا إلى جنب مع نصائح للحكومة القومية في السودان، ووعود بمساعدات إنسانية عاجلة لأهل دارفور، وتأكيد على أن الحل الشامل لمشكلات السودان يكمن في تسوية سياسية تحت مظلة عربية أفريقية أممية مشتركة توفر لها ضمانات النجاح والاستمرارية.وقس على ذلك ما يمكن أن تصل إليه قمة الدوحة بشأن دعم ومساندة العراق والصومال وتأييد جهود الرئاسة في لبنان لترسيخ التوافق وتوفير ظروف أفضل للانتخابات النيابية المقبلة.والأمر نفسه قد يشمل التأكيد على سياسات معينة تسهم في تقوية الاقتصاديات العربية في مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية، وتعزز التعاون العربي المشترك. الملفات الأهم.. المعضلات الأكبر أما الملفات الثلاثة الأولى فهي التي تمثل في واقع الأمر المعضلات الأساسية التي سيكون على قمة الدوحة التعامل معها في العمق إن أرادت أن تضع خطا فاصلا بين ما قبل القمة وما بعدها.أو بعبارة أخرى أن الطريقة التي ستعالج بها القمة هذه الملفات هي التي ستحدد ليس مصير المصالحة العربية والفلسطينية وحسب، بل أيضا مقدار النجاح للقمة نفسها، وبيان مستقبل الأمن والتوازن الإقليمي في منطقة الخليج والمشرق العربي ككل.هنا لابد من التأكيد على أن المصالحة العربية تمثل الوجه الآخر للمصالحة الفلسطينية، والعكس أيضا صحيح. كما أن بلورة إستراتيجية عربية توافقية إزاء إيران تعد شرطا لازما إذا كان هناك طموح في ترسيخ المصالحتين العربية والفلسطينية معا.هنا أيضا تكمن المشكلة الكبرى، ذلك أن الموقف من إيران يختلف من بلد إلى آخر، حسب قدر الهواجس والظنون والمخاوف، أو قدر المصالح المتشابكة وحسن الظن المتبادل ومسار العلاقات الفعلي.وما تحسبه مصر سياسات هجومية إيرانية تنطوي على مخاطر تمس أمنها القومي وتؤثر على مستقبل القضية الفلسطينية فضلا عن مخاوف ضمنية بشأن دور إيراني رسمي وغير رسمي يتعلق بعمليات تشيع في مجتمع مصر السني ومجتمعات عربية أخرى مماثلة كما هو الحال في المغرب، تراه سوريا علاقات إستراتيجية تصب في صالح أمنها القومي وتعزيزا لمنهجها في المقاومة والممانعة ضد الضغوط الأميركية التي كانت، وأنه لا يوجد أي مبرر الآن -بعد تغير التوجهات الأميركية في عهد الرئيس أوباما وتحولها إلى توجهات انفتاحية تدعو إلى الحوار وبناء المصالح- لأن تتخلى عن صديق قديم ثبت صدقه عند الشدة.وفي السياق ذاته ترى سوريا في حديث التشيع العربي قدرا من المبالغة لا أكثر ولا أقل، وفي المحصلة السورية فإن العلاقة مع إيران مفيدة سياسيا وإستراتيجيا وأمنيا ويجب تطويرها.بين هذين الموقفين الحديين من إيران تتعرج قليلا مواقف الدول العربية الأخرى، بيد أن الجوهر واحد وهو كيف يمكن أن تصاغ إستراتيجية عربية تجاه إيران تراعي هواجس البعض من جانب، ومصالح البعض الآخر الكبرى من جانب آخر.في تقديري أنه حين تصل قمة الدوحة إلى إستراتيجية عربية توافقية واضحة إزاء إيران يمكن عندها أن تتحرك المياه في نهر المصالحة الفلسطينية من جانب، ونهر المصالحة العربية من جانب آخر. ويمكن عندها أيضا القول إن قمة الدوحة رسمت خطا فاصلا ينهض بمستقبل النظام العربي. وهذا هو التحدي الأكبر.