كان مولد نوح عليه السلام بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة، ثم بعثه الله تعالى لما عُبدت الأصنام والطواغيت، وشرع الناس في الضلالة والكفر، فبعثه الله رحمة للعباد فكان أول رسول بُعث إلى أهل الأرض، كما يقول أهل الموقف يوم القيامة: (يا نوح؛ أنت أول رُسل الله فاشفع لنا)، وكان بين آدم و نوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأهل ذلك الزمان إلى عبادة الأصنام، وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ذلك، فلما بعث الله نوحاً عليه السلام دعاهم إلى إفراد عبادة الله وحده لا شريك له، وألا يعبدوا معه صنماً ولا تمثالاً ولا طاغوتاً وأن يعترفوا بوحدانيته، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل الذين هم كلهم من ذريته، فذُكر أنه دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل والنهار، والسر والجهر، بالترغيب تارة والترهيب أخرى، وكل هذا لم ينجح فيهم، بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان وعبادة الأصنام والأوثان، بل ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان، وتنقصوه وتنقصوا مَن آمن به، وتوعدوه بالرجم والإخراج، ونالوا منه ومن أتباعه وبالغوا في أمرهم، وتعجبوا أن يكون بشراً رسولاً، وتنقصوا من اتبعه، وكان كلما أشرف جيل على الانقراض وصى مَن بعده بعدم الإيمان بنوح ودعوته وبمحاربته ومخالفته، وكان الوالد إذا بلغ ولدُه وعقِل عنه كلامه، وصاه فيما بينه وبينه: ألا يؤمن بنوح أبداً ما عاش ودائماً ما بقى، وذلك أن نوحاً عليه السلام لما يئس من صلاحهم وفلاحهم، ورأى أنهم لا خير فيهم، وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق من فعال ومقال، فدعا عليهم دعوة غضب فلبى الله دعوته وأجاب طِلبته، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)، فعند ذلك أمره الله تعالى أن يصنع الفلك، وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظير قبلها ولا يكون بعدها مثلها، واستهزأ به قومه وهو يصنع السفينة في مكان لا يوجد به بحر ولا نهر، فأمره الله تعالى إذا جاء أمر الله تعالى وفار التنور أي خرجت المياه من وجه الأرض فعليه أن يحمل في هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات، وسائر ما فيه روح من المأكولات وغيرها لبقاء نسلها، وأن يحمل معه أهله، أي أهل بيته، إلا من سبق عليه القول منهم، أي إلا من كان كافراً فإنه قد نفذت فيه الدعوة التي لا ترد، ووجب عليه حلول البأس الذي لا يرد، وأُمر أنه لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعانيه من العذاب العظيم الذي قد حتمه عليهم الفعّال لما يريد، وقد ارتفع الماء على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً، وقيل ثمانين ذراعاً، وعم جميع الأرض طولها وعرضها، سهلها وحَزْنَها، وجبالها وقفارها ورمالها، ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف، ولا صغير ولا كبير، ونادى نوح ابنه أن يركب معهم السفينة فرفض وقال أنه سيأوي إلى جبل يعصمه من الماء، ولكن قدر الله نفذ وغرق مع الغرقى، وذلك لأنه كان كافراً. ولما فرغ من أهل الأرض، ولم يبقى بها أحد ممن عبد غير الله عز وجل، أمر الله الأرض أن تبتلع ماءها، وأمر السماء أن تقلع أي تمسك عن المطر، ونقص عما كان، وقيل بُعداً للقوم الظالمين من الرحمة والمغفرة.