يمكن التأريخ للتصدع في العلاقات التركية - الإسرائيلية بحادثة "دافوس" (أواخر جانفي 2009)، التي أطلق فيها رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان ثورة غضبه على الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، الذي كان يبرر حملة "الرصاص المصهور"، التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة (أواخر عام 2008). معلوم أن إسرائيل وقتها فاجأت تركيا بالحرب الوحشية التي شنتها على قطاع غزة، في ظرف كانت فيه هذه الأخيرة تقوم بدور الوسيط في المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا. وبعدها توالت الحوادث التي أسهمت في توتير العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، كغضب إسرائيل على بعض المسلسلات التركية (أواخر العام المنصرم)، وحادثة "الكرسي المنخفض" (جانفي 2010)، التي حاول فيها نائب وزير خارجية إسرائيل إهانة السفير التركي في تل أبيب، وكذا إلغاء تركيا مناورات عسكرية بين الجيشين الإسرائيلي والتركي (منذ أواخر العام الماضي). ويأتي في آخر هذه السلسلة قيام إسرائيل بعملية القرصنة البحرية ضد سفن "قافلة الحرية"، وارتكابها جريمة قتل تسعة من النشطاء الأتراك، مما أثار غضب تركيا (شعبا وحكومة). وكانت تركيا - نتيجة لتبرّمها من سياسات إسرائيل المتعنتة، وإدراكا منها لكون سياسات كهذه تعزز الاضطراب في الشرق الأوسط- انتهجت مواقف عدتها إسرائيل مناهضة لسياساتها الإقليمية، ضمنها مثلا سعيها للحث على حل سلمي للملف النووي الإيراني (وهو ما توج بالصفقة التي عقدتها هي والبرازيل مع إيران لتبادل اليورانيوم المخصّب في تركيا)، بالضد من مساعي إسرائيل للتحريض على إيران والحث على حلول حربية لهذا الملف. وكذا قيام تركيا بتعزيز علاقاتها مع سوريا في مختلف المجالات، إلى الدرجة التي جعلت بعض الأطراف في إسرائيل تتحدث عن انضمام تركيا إلى المحور المعادي (إيران - سوريا - حزب الله - حماس). هذا إلى جانب تنامي نوع من الإدراك في إسرائيل لكون تركيا باتت تنافسها بقوة على مكانتها في السياسة الأميركية الإقليمية (المتعلقة بكيفية حل أزمات المنطقة)، لاسيما في ظل حال التوتر السائدة في علاقة إسرائيل مع الإدارة الأميركية الحالية (إدارة أوباما)، واعتبارها أيضا أن تركيا تحاول تعزيز مكانتها الإقليمية من مدخل القضية الفلسطينية، ولو على حساب إسرائيل، وبثمن العلاقة معها. عموما من المثير التمعن في القراءة الإسرائيلية لهذه التطورات، المؤثرة على إسرائيل وعلى صراعات القوى في الشرق الأوسط. ففي هذه القراءة ثمة محاولات لإحالة التغير في السياسة الخارجية التركية إلى عوامل داخلية (دينية وثقافية وتاريخية)، وإلى عوامل سياسية معينة، وكل ذلك في محاولة لتبرئة إسرائيل، وإثارة شبهات حول سياسة حزب "العدالة والتنمية". التفسير بالتحول نحو الأصولية بديهي أن أبسط تفسير وأريح تفسير عند إسرائيل هو الترويج لتحول تركيا نحو الأصولية الإسلامية، للتحريض عليها من هذا المدخل، وحتى نعي ما يسمى الإسلام المعتدل الذي مثله حزب "العدالة والتنمية". وفي هذا الإطار يقول أفرايم عنبار (مدير مركز بيغن - السادات للبحوث الإستراتيجية) "بخلاف كثيرين في الغرب، اعتقدت أن هذا الحزب يستطيع أن يؤلف بين تراث ديني غني والحداثة، وأن يصبح مثالاً يحتذي لإسلام معتدل ومثالاً يحتذيه العالم الإسلامي.. اليوم ومع رؤية السياسة الخارجية والداخلية للحزب الحاكم التركي.. أخلص بالتدريج إلى استنتاج أنني أخطأت. أخذت تركيا تستسلم لبواعثها الإسلامية، وتدفع علاقتها بالغرب لتصبح ذات أهمية ثانوية.. تركيا في أوج أزمة هوية.. التأليف بين جذورها الإسلامية وتحديات القرن ال21. الحديث عن مفترق طرق تاريخي.. خسارة تركيا لصالح الإسلام المتطرف ستكون ضربة إستراتيجية شديدة لإسرائيل والغرب؛ لكنها ستكون مأساة للأتراك قبل كل شيء". (معاريف 15/10). لكن ألوف بن يرد على هذا الادعاء محملا المسؤولية لإسرائيل الأصولية أيضا. وبرأيه ثمة "الكثير من التشابه بين دولة إسرائيل والجمهورية التركية.. الرباط العقائدي أهم من التماثل التاريخي. تمرد بن غوريون وأتاتورك على الوسط الديني الذي ترعرعا فيه، وأنشآ دولتين علمانيتين تتجهان إلى الغرب.. لكن التغيير كان قصيرا.. فعلت الديمقراطية فعلها: ف45٪ من طلاب الصفوف الأولى من اليهود يذهبون اليوم إلى مدارس رسمية - دينية وحريدية، بزيادة 13٪ في العقد الأخير. أما تركيا.. فجرى عليها شيء مشابه من تقوي الدين. تطور في الدولتين استقطاب آسر: فمن جهة شركات هايتك وصناعة متقدمة ومن جهة أخرى كنس ومساجد مملوءة؛ وحياة ليلية عاصفة ولباس قصير إلى جانب غطاء الرأس.. تسيطر على أنقرة والقدس اليوم حكومتان تسعيان إلى نقض عرى التراث الكمالي وتراث بن غوريون. وتتغذى عقيدتاهما من الدين والتراث، حتى لو كان أردوغان ونتنياهو يلبسان حللا وربطات عنق". (هآرتس 2010/06/09). الحق على الديمقراطية اللافت أن الأمر وصل عند بعض المحللين حتى حد تحميل المسؤولية عن تدهور العلاقات مع تركيا على "الديمقراطية"، التي جلبت حزبا إسلاميا إلى السلطة. وبحسب يوآف برومر فقد "كانت ثمة أيام كانت فيها العلاقات بين تركيا وإسرائيل أقرب حكاية حب تستطيع العلاقات الدولية إنشاءها: فأعداء مشتركون في بغداد ودمشق، وأهداف إستراتيجية متوازية، وطموح متماثل إلى الحداثة الاقتصادية والأخوة الموالية للغرب والعلمانية.. إلى أن دخل الصورة عامل أجنبي وهدم قصة الحب هذه، ألا وهو الديمقراطية.. اللحظة التي تحولت فيها علاقة إسرائيل بتركيا تحولا مصيريا.. كانت في شهر نوفمبر 2002، عندما أصبح حزب العدالة والتنمية ذو الميول الإسلامية الحزب الحاكم في الدولة". ويذهب برومر أبعد من ذلك بالتصريح بأن الأفضل لإسرائيل هو شرق أوسط ليست فيه ديمقراطية!، وبرأيه "كلما ضربت نظم الحكم الديمقراطية في الشرق الأوسط جذورها، فستهتز مكانة إسرائيل.. جميع اتفاقات السلام والتطبيع التي عقدتها إسرائيل مع دول مجاورة وقعتها نظم حكم أوتوقراطية حكمت بقوة الذراع لا بقوة صندوق الاقتراع.. ليس صدفة أن كل حكومة ديمقراطية حقيقية ستنشأ في الشرق الأوسط ستضطر إلى الإنصات لمشاعر الشارع العربي ومشايعة الفلسطينيين، والهوية الإسلامية العامة.. في هذه الأيام تجد إسرائيل نفسها تشارك في سباق ماراثون.. مع القنبلة الإيرانية.. مع الديمغرافية الفلسطينية. وقد تجد نفسها في القريب تشارك في سباق آخر من نوع جديد هو السباق مع الديمقراطية العربية". (معاريف 2010/10/19). وعند تسفي برئيل فإن "تركيا تغيرت، وقبل كل شيء بالنسبة لنفسها. في مسيرة طويلة ومضنية أصبحت دولة أكثر ديمقراطية. الجيش لا يزال مسيطرا، ولكن بعلنية أقل في المجال المدني". (هآرتس 2010/10/18). صراع على المكانة الإقليمية وفي الحقيقة فإن إسرائيل وجدت نفسها فجأة وقد خسرت كثيرا، فهي كانت خسرت قبل ثلاثة عقود إيران، وبخسارة تركيا باتت وحيدة في محيط معاد، ومضطرب، وخطر على وجودها. ومشكلة إسرائيل مع تركيا تختلف عن إيران، فتركيا جزء من العالم المعتدل، وعضو في حلف الأطلسي، ولديها علاقات ممتازة مع الولاياتالمتحدة الأميركية، وتطمح لعضوية الاتحاد الأوروبي. وما يسبب حرجا لإسرائيل هو أن تركيا تواجهها ضمن حدود الشرعية الدولية، وبوسائل سلمية ومدنية، وهي تتبنى رفع الظلم الواقع على الفلسطينيين، ولا تنادي بإزالة إسرائيل. ومشكلة إسرائيل فوق كل ما تقدم هو أن تركيا تناطحها على مكانتها في منطقة الشرق الأوسط في مختلف المجالات، السياسية والأمنية والاقتصادية، وهي تمتلك كل المقومات اللازمة لذلك، حتى إنها ربما تحظى برضا العالم الغربي في هذا المجال، بعد أن باتت إسرائيل بمثابة عبء على الغرب. ويلخص تسفي بارئيل هذا الوضع بالتالي "أصبحت تركيا قوة عظمى اقتصادية إقليمية. وهي ذخر إستراتيجي حقيقي للولايات المتحدة، حيويتها تعاظمت في أعقاب الحرب في العراق. كما أنها طورت إستراتيجية إقليمية جديدة.. تركيا تتطلع إلى أن تكون ذات تأثير ليس فقط في الشرق الأوسط بل وفي القوقاز وفي آسيا. وهي شريكة في القتال في أفغانستان، تعقد تحالفا اقتصاديا مع العراق، وتعتزم استثمار مليارات الدولارات في مصر، وحجم تجارتها مع إيران هو نحو 9 مليارات دولار، ومع سوريا نحو مليار ونصف. نعم، حتى لو كانت إسرائيل تدير تجارة بحجم 3 مليارات دولار.. تركيا الدولة الإسلامية الثانية بعد إيران التي اعترفت بإسرائيل في 1949، لا تركل إسرائيل ولا تغير ألوانها. ولكنها تريد حليفا لا يحرجها، لا في نظر جمهورها ولا في نظر حلفائها الآخرين". (هآرتس 2010/10/18). وهذه صحيفة هآرتس، في مقال لهيئة التحرير فيها، تحاول تفسير ما يحصل من تطورات في السياسة التركية، بأنه "يعكس ظاهرة صعود قوى عظمى جديدة.. تسعى إلى أن تحقق في الساحة العالمية قوتها السياسية والاقتصادية المتعاظمة.. تعبير صرف عن هذه الظاهرة جاء في حملة رئيس الوزراء التركي ورئيس البرازيل.. تحقيق اتفاق لنقل اليورانيوم المخصب من إيران إلى تركيا لإحباط المبادرة الأميركية لفرض عقوبات على إيران.. الواقع العالمي يدل على أن ألمانيا، اليابان، الهند، تركيا، البرازيل.. وربما أيضا أستراليا وكوريا الجنوبية وغيرها "تقضم" مما اعتبرت من قبل القوى العظمى.. العالم يتغير.. المعنى ليس الانصراف عن الاعتماد على كبرى صديقاتنا، الولاياتالمتحدة. على إسرائيل أن تفهم أنه في ميزان القوى العموم العالمي عليها أن تراعي.. القوى العظمى الوسطى.. أن تصحو من أوهامها بأنه يمكنها أن تبقي على مدى الزمن سياسة تتجاهل معظم العالم". (افتتاحية هآرتس 2010/6/9). المدخل الفلسطيني ورغم أن التفسيرات الإسرائيلية حاولت التقليل من أهمية المدخل الفلسطيني في توتير العلاقات مع تركيا، للتغطية على وضعها كدولة محتلة، فإنها لم تستطع تجاهل ذلك تماما، إذ إن الخطاب التركي جد واضح في هذا المجال. وربما يفسر ذلك حنق إسرائيل على أردوغان رئيس وزراء تركيا الذي بات يعرّف فيها كمثير "للتحريض والكراهية"، وباعتباره "ديماغوجياً خطيرا، داهية.. مصيبة إستراتيجية.. أحمدي نجاد الثاني.. يفعل كل شيء كي يغير وجه تركيا.. أردوغان يريد أن يدخل التاريخ كمن أعاد الإمبراطورية التركية إلى عهدها المزدهر.. يخطط لتنفيذ معظم هذه الخطوة على ظهرنا.. في الطريق إلى مكانة صلاح الدين، أو على الأقل جمال عبد الناصر الجديد.. محافل أمنية في إسرائيل مقتنعة بأن الفخ الذي أُعد لمقاتلي القافلة أسفل سفينة "مرمرة" هو ثمرة العقل الناشط لأردوغان". (بحسب تقرير بن كسبيت، معاريف 6/6). ويعتقد غي بخور أن أردوغان يريد أن يستثمر في القضية الفلسطينية ومعاداة إسرائيل لتعزيز مكانته. يقول بخور "لماذا لا تصرف انتباه الملايين عندك ضد العدو الصهيوني؟ لماذا لا تختلق عدوا أجنبيا وتحظى بذلك بالشرعية؟، هذا يقرب المتحدث من عالم الإسلام دون أن يدفع ثمنا داخليا. اضرب اليهودي واربح، حين تكون إسرائيل هي اليهودي اليوم. تركيا وإيران على حد سواء تستخدمان إسرائيل كأداة، كمعامل لتحقيق أهداف داخلية. من ناحيتهما إسرائيل هي أداة عمل مشروعة، لتخفيف حدة دستوريهما المتصلبين، لخلق سياقات داخلية للحكم". (يديعوت أحرونوت 2010/10/29). لكن غاليا ليندنشتراوس (باحثة في معهد بحوث الأمن القومي) تحدثت بشكل موضوعي عن هذا الأمر، وبرأيها "منذ زمن والأتراك يعتقدون أن سياسة عدم الحوار بين إسرائيل وحماس، وكذلك الحصار على غزة، ليستا فقط مغلوطتين بل تؤديان أيضاً إلى تدهور إقليمي. كما أن غياب سياسة إسرائيلية مبادرة زاد من الانتقاد التركي المتعاظم للسياسة الإسرائيلية، التي تعتبر في نظر الأتراك هدامة للمنطقة". (إسرائيل اليوم 6/6).وبغض النظر عن هذه التفسيرات، فإن إسرائيل باتت تدرك أن العصر الإسرائيلي في الشرق الأوسط أوشك على الأفول، وأن الزمن الذي كانت يدها فيه مطلقة -في هذه المنطقة- انتهى إلى غير رجعة.