صحفي الشروق رفقة محافظ الكبكابية و مرافقيه فرنسا تغذي أزمة دارفور وعين إسرائيل على الإنفصال ارتبط اسم السودان في أذهان الرأي العام العالمي على مدى سنوات خلت، وإلى الآن، بقضية دارفور من جهة، ومشكلة الشمال والجنوب التي اختارت الأطراف المتنازعة حولها حلّها باللجوء إلى صناديق الاقتراع، وإجراء استفتاء عام 2011 لتقرير مصير "الإلدوراردو الإفريقي": هل سيبقى تحت مظلة السودان، أم سيجد نفسه تحت قيادة مستقلة؟. هذه المشكلات التي تهدد مستقبل السودان وتعصف به كبلد مستقل أسالت كثيرا من الحبر واستغلتها أطراف غربية حاولت استثمار هذه الأزمات لإضعاف "الجمهورية الإسلامية" التي شهدت ميلادها بعد انقلاب 1989 على نظام النميري، ولهذا قررنا أن نعاين الأوضاع عن كثب، ونتحدث مع المسؤولين والسياسيين، موالين أو معارضين، من أجل فهم أوضح لهذا البلد القضية الذي لن يعرف مستقبلا مشرقا ما لم يتجاوز أزماته الداخلية. * * أثناء تنقلاتنا الميدانية وحديثنا مع المسؤولين السياسيين من مختلف الأطياف، بدا واضحا أن الأزمة في كل من دارفور والجنوب تؤرقان كاهل الجميع وتضعان البلد على كفّ عفريت، وذلك أن الكل يُدرك وطأة المشكلتين وتداعياتهما الخطيرة على البلد، ومن ثم أصبح كل حديث عن التنمية موضوعا على الهامش، في انتظار حلّ المعضلتين حلا يخدم مصلحة السودان وليس مصالح خصومها المتشابكة. * * دارفور والدور الفرنسي في إشعال فتيل الأزمة وتغذيتها * أول ما يتحدث به السياسيون السودانيون هنا حول مأساة دارفور هو الدور الفرنسي الكبير في زرع بذور الفتنة والاقتتال وتحريض بعض الجماعات على التمرد والقتل، عبر الوسيط التشادي الذي يمد المتمردين بالأسلحة. وفي لقائنا مع د. مصطفى عثمان، وزير الخارجية السابق والمستشار الحالي للرئيس السوداني، أشار إلى مدى استغلال التشاديين لكثير من الجماعات المسلحة وتزويدها بالسلاح الفرنسي، ويستطرد ليوضح: "إن الفرنسيين متحكمون حتى النخاع في تشاد، ويكفي أن نشير إلى أن رواتب إطارات الجيش التشادي تدفعها فرنسا نفسها". ثم يقول محدثنا إن بعض الجماعات المسلحة في دارفور أصبحت جزءا أصيلا من مسألة الأمن القومي التشادي، فهي تشارك جنبا إلى جنب مع الجيش التشادي في عمليات عسكرية داخل تشاد نفسها، وتحرص الدولة على أن توفر لهم أسباب الراحة والرفاهية طيلة مكثهم في أراضيها، وهو ما يُفسر العلاقة المتشابكة بين طرفين متفقين على تحطيم السودان: من الداخل والخارج. * وفي السياق ذاته دار الحديث مع محافظ منطقة الكبكابية في دارفور، محمد حامد إبراهيم، فهو يُبرز عمق المشكلة، حيث يُقيم في "الكبكابية" وحدها ما بين 20 إلى 30 قبيلة، وفي دارفور كلها تتواجد حوالي 200 قبيلة و90 لهجة. * بدا واضحا في حديث جمعنا مع المحافظ ونخبة من ممثلي شمال دارفور أن الجميع يعتبر هذه المعضلة إصابة في مقتل، وحاول محدّثنا سرد بعض خلفيات الأحداث التي كانت "منذ البداية صراعا بين الراعي والمزارع، فالراعي يريد أن تأكل أنعامه أحسن العشب، في حين أن المزارع يريد المحافظة على زراعته، لأنها مصدر رزقه فلا يسمح للبهائم بإفساد أرضه، وان أضاف إلى ذلك التغيرات المناخية التي شهدتها المنطقة، ففي الشمال يكون الخريف غير خصيب وهو ما يضطر القبائل إلى التوجه نحو الجنوب فتحصل إثر ذلك مشاكل حول العشب والكلأ كانت الإدارة المحلية قبل عهد النميري بقوتها وسطوتها تمارس دور الرادع عن كل التجاوزات". * ويضيف محدّثنا: "المشكلة لم تكن في الأساس سياسية، لكن الصراعات التشادية التشادية والتشادية الليبية أغرقت المنطقة بأسلحة كثيرة، ولم توفق السلطة لحل المشكلة حينها". ثم يؤكد مرة أخرى على أن المشكلة في دارفور ليست دينية ولا عرقية إثنية "كلنا مسلمون ولا يمكن التفريق بين العرب وغيرهم، لهذا لا توجد أي حرب إثنية عرقية أو دينية هنا". * هذا الوضع المتأزم جعل أكثر من طرف خارجي يستثمر في المأساة، فكل من فرنسا وبريطانيا وأمريكا حسب محدثنا استغلوا المتمردين لتحقيق مصالحهم، ولا أدل على ذلك من الاهتمام الذي حظيت به دارفور في أجندة الأممالمتحدة وفي ظرف وجيز "لم تستطع حركات انفصال الجنوب إدراج قضيتها في الأممالمتحدة رغم أن المشكلة تجاوزت 20 سنة، في حين أن قضية دارفور أدرجت ولم تكن تجاوزت عامها الثالث، ألا نفهم أن هناك مؤامرة ما على الإقليم وعلى السودان؟"، يتساءل محدثنا. * وكانت مساعي الصلح وجولات الحوار التي قادتها الحكومة السودانية تصطدم بعائق كبير، وهو كثرة الفصائل المتمردة وانقسامها بشكل دوري إلى مجموعات أصغر كل لها رؤيتها وتصورها ومفهومها ومطالبها؛ فبعد أن عرفت دارفور حركة العدل والمساواة وكذا حركة التحرير، ارتفع عدد الحركات المسلحة إلى أكثر من 30 فصيلا.. ورغم انتهاء الحرب يقول المحافظ محمد حامد إبراهيم إلا أنه من الصعب والعسير توحيد الحركات المتمردة التي تتكاثر يوما بعد يوم. * من الجانب العسكري، أحكمت حكومة البشير سيطرتها العسكرية على الإقليم في حدود 90 بالمائة من مجموعه، لكن الأمل اليوم يحدو سكان المنطقة في التخلص من كل أزمات ما بعد الحروب، لاسيما في مجال التنمية، ولهذا يحث ممثلو دارفور الحكومة على دعم وتكثيف مشاريع التنمية في المنطقة حتى لا يؤدي الفقر والبطالة إلى ثورات جديدة يستغلها تُجار الحروب والأزمات. * وفي ختام حديثنا معه، يؤكد محافظ الكبكابية: "إننا نأمل كثيرا في مفاوضات الدوحة، ونطلب من الحكومة أن لا تقتصر المفاوضات على حركات التمرد، وإنما حتى المواطنين الذين عانوا كثيرا من ويلات الحروب والصراعات في المنطقة". * وبما أن الأنظمة مهما كانت طبيعتها تتقوى في وجود التهديد الخارجي، فإن الضغط الدولي الذي أنتج دعوى محكمة الجنايات الدولية المرفوعة ضد المشير عمر حسن البشير بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور قد كثّف الالتفاف الشعبي ضد الرئيس السوداني وزاد من شعبيته بوصفه الرجل الذي يواجه الهيمنة الغربية التي تريد تفجير السودان بدعم كل حركات التمرد والانفصال فيه. * غير أن للشيخ حسن الترابي، غريم الرئيس السوداني، موقفا آخر يُعتبر نشازا في الساحة السودانية، فهو يطالب بامتثال البشير أمام محكمة الجنايات الدولية معتبرا أنه "يتحمل المسؤولية السياسية عن المجازر والتجاوزات التي حدثت في دارفور" (حوار حصري ومثير سننشره لاحقا)، وهذا الموقف الذي يستنكره كثيرون، موالون أو معارضون للرئيس السوداني، إضافة إلى غيره من المواقف السياسية جعلت الشيخ الترابي أحد أبرز المغضوب عليهم، وهو لهذا يتنقل بين إقامته في "المنشيّة" وبين السجن، كما كلفه حجز جواز سفره ومنعه من مغادرة التراب السوداني. * ومن خلف الكواليس، تحدث السياسيون عن أملهم في أن تلعب الجزائر دورا كبيرا في قضية دارفور بالضغط على فرنسا لتليين مواقفها ووقف تدخلها الذي له تداعيات تدميرية على المنطقة. * شمال بلا جنوب وجنوب بلا شمال * بعد ما لاحت تباشير حل يُخرج دارفور من أزمتها، عرفت مشكلة الجنوب، وهي الأعمق والأخطر من حيث تداعياتها، تطورات كبيرة انتهت باتفاق يجعل من عام 2011 سنة إجراء استفتاء بتقرير مصير الجنوبيين، هل يختارون الانفصال عن الشمال ويكوّنون دولة مستقلة، أم يختارون البقاء تحت عباءة الوطن الأم. وجاء تأكيد الرئيس عمر البشير في كلمة ألقاها في افتتاح المؤتمر الثالث للمؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) التزامه بالتوقيت الزمني لإجراء الاستفتاء كبادرة حسن نية تدحض أقوال من قال إن الحزب الحاكم لا يريد لهذا الاستفتاء أن يُجرى. * لكنّ موعد الاقتراع هو الشيء الوحيد الذي تم الاتفاق عليه مع الحركة الشعبية لتحرير السودان التي يقودها سيلفاكير ميرياديت، في حين طفت إلى السطح خلافات كبيرة حول النسبة المرجحة لكفة الانفصال وطبيعة المصوتين، إضافة إلى بعض "العقبات الموضوعية" التي تحكم طبيعة العلاقات المعقدة بين الشمال والجنوب. * حصل الخلاف ابتداء في تحديد النسبة المجيزة للانفصال في تقرير المصير، فالحكومة السودانية والقوى المتكتلة معها تقول إنه لابد من أن يتجاوز عدد المستفتين الراغبين في الانفصال 75 بالمائة حتى يتم اعتماده، وهي تبرر ذلك بكون هذه النسبة هي الأمثل في التعبير عن الأغلبية، لاسيما وأنه لا يعتمد أي تعديل دستوري في السودان بما دون الثلثين، في حين تطالب الحركة الشعبية لتحرير السودان بنسبة 50 +1، أي أن يكون الحُكم بالانفصال بمجرد تجاوز المطالبين به نسبة 50 بالمائة، وهو ما أكده مؤتمر "جوبا" الذي عُقد قبل أسبوعين، وشارك فيه حزبا الصادق المهدي وحسن الترابي اللذان كانت لهما رؤية مغايرة لقضية الجنوب وطريقة تعامل الحكومة السودانية معها. * ولما سألنا الشيخ حسن الترابي عن الموضوع من منطلق كونه قانونيا، قال إن ما تطالب به الحكومة السودانية "غير معقول"، موضحا أن "طبيعة الاستفتاءات في العالم كله تجري على نسق 50 بالمائة +1، وليس نسبة 75 بالمائة، وأنا أقول هذا من منطق أني رجل دارس للقانون". ومع الخلاف الحاصل بشأن النسبة، تأمل الحكومة السودانية التوصل إلى طريق ثالث يفتح الأبواب على نسبة وسط بين مطالب الشماليين والجنوبيين، "لكنها لن تكون أقل من الثلثين"، يؤكد لنا الدكتور مصطفى عثمان. * وفيما يخص المؤهلين للاستفتاء، فقد حدث نزاع حول الجنوبيين الذين نزحوا إلى الشمال واستقروا فيه، هل لهم أحقية تقرير مصير الجنوب أم لا، وكذا إحصاء الجنوبيين الموجودين خارج السودان. * وفي لقاء مع الدكتور مندور المهدي، الأمين السياسي لحزب "المؤتمر الوطني" الحاكم، لم يُغفل الإشارة إلى ما أسماه "العقبات الموضوعية" في هذه القضية الشائكة، فأغلب مناطق البترول متواجدة بالجنوب، في حين أن منافذها ومعامل التكرير متواجدة في الشمال، فكيف سيستفيد الشماليون من البترول وكيف سيستفيد الجنوبيون من الصناعات البترولية واستخدام المنافذ الشمالية؟ ثم هناك أيضا قضية الجنسية: هل ستُمنح للجنوبيين المقيمين بالشمال جنسية مزدوجة، أم أنهم سيفقدون الجنسية السودانية تلقائيا، وما هو مصير ممتلكاتهم وطبيعة أعمالهم في حال كان الانفصال عدائيا؟ * هذه الأسئلة التي تطرح بشدة اليوم لن تكون الوحيدة، فالمشكلة الجنوبية عويصة ومعقدة بسبب كثرة القبائل واللهجات والأعراق، وهو ما سيُغرق المنطقة في حال انفصالها في فوضى كبيرة، حسب ما يتوقع سياسيون سودانيون. * ومن خلال استطلاعنا لآراء بعض السياسيين، موالين ومعارضين، قال أغلبيتهم إن الانفصال مسألة وقت لا غير، وهذا ما يفسر كون بعض الأحزاب تحاول رأب الصدع وتعمل على أن يكون "الطلاق بالتراضي" تجنبا لأي مشاكل مستقبلية، لاسيما وأن عين إسرائيل كما يقول السياسيون في الشمال على الجنوب، ويتوقعون أن تغرز قدمها فيه بعد الانفصال. * مشكلة الحريات السياسية والإعلامية بين البشير والمعارضة * لئن لم يكن السودان بلدا مثاليا في الحريات السياسية والإعلامية، إلا أنه ليس البلد الأسوأ كما تصوره بعض وسائل الإعلام الغربية بإيعاز من القوى الدولية الضاغطة، فالسودان يتمتع بثقافة سياسية كبيرة من خلال أحزابه العريقة التي أنشئ بعضها منذ عقود كثيرة، كما أن هناك هامشا للتعددية يبدو بوضوح لكل من حضر النشاطات السياسية، وعلى سبيل المثال افتتح المؤتمر الوطني، وهو الحزب الحاكم، أشغال مؤتمره الثالث ووجه دعوات للأحزاب المعارضة وفتح لها منبره وعبرت عن أفكارها المعارضة بكل وضوح، كما أن وزارة الإعلام السودانية سهلت لنا لقاء كل من طلبنا لقاءه من السياسيين السودانيين، بمن فيه معارضو البشير الشرساء مثل الشيخ حسن الترابي. * أما على الصعيد الإعلامي، فقد تم إلغاء الرقابة القبلية للمنشورات بعد ما وقّع رؤساء تحرير الصحف السودانية ميثاق شرف يتعهد بعدم المساس بوحدة السودان ولا التحريض على الطائفية في الكتابات الإعلامية، وغيرها من الالتزامات، وهي خطوة اعتبرها إعلاميون مهمة في سياق حرية التعبير، بمن فيهم نائب رئيس نقابة الصحفيين السودانية الذي تحدثنا معه حول الموضوع في مكتبه، لكن رئيس تحرير صحيفة "أخبار اليوم" أحمد البلال الطيب أبدى تحفظه على القضية، لأن الحق في التعبير بدا مجرد هبة من الحكومة يمكن أن تستردها في أي وقت، وبنص الدستور. * ويعتقد كثير من السودانيين أن المشاكل تفاقمت بسبب الإعلام الغربي الذي نقل حقائق مغلوطة عن بلدهم، لدوافع غير مهنية، ومن ذلك يروي الدكتور مصطفى عثمان وزير الخارجية السابق قصة مفادها أنه التقى بصحفي فرنسي في باريس لما كان وزيرا للخارجية، وكان يكتب كتابات مجحفة في حق السودانيين والأزمة في دارفور، فسأله إن كان مستعدا لمنحه تأشيرة إلى السودان، فأجابه بالقبول، فقال الصحفي: تقبل وقد علمت ما أكتبه عنكم؟ فقال له الوزير: لن يكون ما تكتبه بعد معاينتك للحقيقة على أرض الواقع أسوأ مما تكتبه الآن، ولهذا لا أجد حرجا في منحك التأشيرة. حينها يقول الدكتور مصطفى عثمان قال لي الصحفي الفرنسي: لقد طلبت تأشيرة من السفير السوداني ورفض، ولهذا كتبت ما كتبته بدافع الانتقام وليس لبيان الواقع أو كشف الحقيقة! ولهذا وجه إلينا وفد من دارفور الحديث في لقاء خاص وقالوا لنا: "الإعلام الغربي دمرنا وفعل فينا ما لم يفعله السلاح.. نرجو منكم أن توصلوا إلى العالم وضعنا الحقيقي". * السودانيون يُجمعون: لا بديل عن المصالحة الكبرى * رغم كل الخلافات الحاصلة بين السودانيين، موالاة ومعارضة بكامل أطيافها، يُجمع الكل على أنه لا بديل عن المصالحة من أجل مواجهة التحديات المشتركة التي تعترضهم جميعا، وليس مجرد حزب أو طائفة منهم فقط. * فرغم الانتقادات الموجهة للحكومة في طريقة تعاملها مع أزمة دارفور، إلا أن الجميع يُدرك أن القوى الغربية هي التي تُحرِّك الملف وتريد أن تجعل من السودان بؤرة توتر غير مستقرة، تزرع الفوضى والاضطراب، خدمة لأجنداتها الإقليمية، لاسيما وأن السودان بلد غني بالثروات البشرية والباطنية والزراعية والحيوانية، ولهذا تأمل أن تفكك كل الألغام المزروعة عبر إرساء معالم مصالحة وطنية شاملة تتنازل فيها كل الأطراف عن بعض مواقفها ومطالبها من أجل الحفاظ على مصلحة السودان المهدد على أكثر من جبهة، لأن وحدة السودان ومأساة دارفور وغيرها ليست قضية البشير ولا حكومته، وإنما هي قضية السودان بأسرها.