بعد يومين، ستحل علينا ذكرى من الذكريات الأليمة التي مرت على الشعب الجزائري، هي صفحة أخرى من صفحات التاريخ الأسود للاستعمار الفرنسي في الجزائر، صفحة لا ولن تطوى مدى الزمن، ستبقى الندوب والآثار التي تحملها الأجسام والأنفس البريئة، شاهدا حيا على أبشع استعمار عرفه التاريخ الحديث. ذلك هو يوم 13 فيفري من سنة 1960م، الذي شهد التجارب الأولى للتفجيرات النووية بأعماق صحرائنا الغالية. فما ذا حدث في هذا اليوم، وما الآثار التي خلفتها التفجيرات النووية؟ قبل الإجابة على هذه الأسئلة، نشير إلى أن هناك تحركات عديدة تشهدها الساحة الوطنية تصب في اتجاه دفع الدولة الفرنسية إلى الاعتراف رسميا بجرائمها. وحسب مصادر، فإن هناك سعيا في الأيام القليلة الماضية، لجلب فريق طبي متخصص من أوروبا، يزور المناطق الصحراوية التي وقعت فيها التفجيرات النووية، بغية معاينة آثارها والوقوف على تبعات تلك التجارب على الناجين من الموت. وفي نفس السياق قالت، في وقت سابق، المحامية فاطمة الزهراء بن براهم، رئيسة جمعية الدفاع عن ضحايا التجارب النووية: "بالرغم من مرور نصف قرن على أول تجربة نووية فرنسية، إلا أن ملف تلك التجارب لا يزال مفتوحا، علما بأن السلطات الفرنسية ظلت إلى وقت قريب ترفض الاعتراف بما اقترفته"، مشددة على القانون الذي صدر مؤخرا ويقضي بتعويض ضحايا هذه التجارب يبقى غير كاف، وأضافت "أن دراسة أجريت كشفت بأن التجارب النووية خلفت آثارا يصعب حصرها". إن جرائم الاستعمار في الجزائر لا تعد ولا تحصى، فقد مارس كل ما جادت به قريحته الإجرامية والتدميرية، من أجل بسط نفوذه على الأرض الجزائرية، فقتل وعذّب وأحرق وشرّد وصادر الأراضي، وانتهك الحرمات، واستعمل من أجل ذلك كل أنواع الأسلحة ووسائل التعذيب والتقتيل، "المحللة" منها والمحرمة على حد سواء، والدلائل على ما اقترف من جرائم مازالت آثاره شاهدة، في جسوم الضحايا، الذين هم على قيد الحياة، فمن الضحايا ما بقيت على جلده ندوب الحرائق بفعل "النابالم"، ومن الضحايا من قطعت رجله أو ذراعه، و منهم جنّ أو ركبه السل جراء التعذيب والسجن، ومن الضحايا من يحمل أمراضا تتوارثها الأجيال، نتيجة الإشعاعات النووية، هذه الأخيرة التي ستكشفه بعض الشهادات من الضحايا في منطقة رقان. تقع منطقة رڤان التي كانت حقلا للتجارب النووية الفرنسية، في أقصى الجنوب الغربي للجزائر، على بعد 1800 كلم من العاصمة، وهي تتربع على مساحة إجمالية تقدر ب124 ألف كيلومتر مربع ويقطنها حوالي 40 ألف نسمة، وهي إحدى بلديات ولاية أدرار. مناخها صحراوي، حار صيفا وبارد شتاء، أراضيها صحراء ممتدة امتداد البصر، تزينها كثبان رملية بديكور شاعري خلاب . بشاعة ما حدث في هذه المنطقة تكشفه تقارير عديدة، و شهود عيان، يؤكدون على أن هناك آلاف من المدنيين الجزائريين تضرروا من التجارب، أغلبهم من سكان رقان والمناطق المجاورة لها، استغلتهم القوات الاستعمارية كونهم أميين لا يعرفون شيئا عما يحدث ولا ما ينتظرهم جراء تلك التجارب. يقول أحد الشهود على تلك الجرائم، يسمى عبد الرحمن سعداوي، من مواليد 1916 برقان، كان مجندا للعمل في موقع التفجير قبل التجارب وفقد بصره بعد أيام من حدوثها، يقول: "في اليوم الموالي للانفجار أقامت القيادة العسكرية بالمركز حفلا لم يسبق له مثيل ابتهاجا بالحدث العظيم بالنسبة إليهم. نحن كنا أميين في ذلك الوقت، لم نكن نعرف ما يجري من حولنا. كل ما عرفته أن الأمر خطير جدا، خصوصا عندما رأيت بعض الجنود الفرنسيين يبكون داخل الثكنة وألحوا على العودة إلى فرنسا"، وأضاف: "انتابني نوع من الخوف لأني علمت أن تأثيرات التفجير ستنعكس سلبا على سكان المنطقة في السنوات القادمة. وهو ما حدث فعلا. إذ فقدت بصري أنا والكثير من أبناء هذه المنطقة، وتفشت أمراض لم تشهدها رقان قط، إضافة إلى تراجع المنتوج الفلاحي الذي يعد النمط المعيشي الوحيد للسكان". أعلنت فرنسا في المدة الأخيرة عن مشروع قانون لتعويض ضحايا التجارب النووية الفرنسية بين عامي 1960 و1996، وأثار ذلك كثيرا من ردود الأفعال في الجزائر بين من يعتبره "اعترافا بعد خمسين عاما، لكنه خطوة أولى في طريق الإقرار بجرائم فرنسا في الجزائر"، وبين من يعتبره "قانونا فرنسيا بحتا لا يشمل الجزائريين بأية صفة، لأنه قانون فرنسي يخص الفرنسيين ممن كانوا في الجزائر في عهد الاحتلال"، غير أن هذا من شأنه أن يزيد في الحساسية بين العلاقات الجزائرية الفرنسية، حسب ما يرى البعض. وبهذا الخصوص يقول السيد القصاصي حاج عبد الرحمن، رئيس جمعية "الثالث عشر فبراير 1960": "هذا المشروع خطوة جيدة لكنها غير كافية بالنسبة لنا كجزائيين ولا نعتبره (أي مشروع القانون) الحل الذي نصبو إليه، لأن الجريمة يجب أن تجرّم أولا. فآثارها لم تمح بعد والتي يعاني منها المدنيون العزل. فنحن نرى بأن التعويض ليس هو المهم كما أنه يجب أن يشمل الآثار المنظورة وغير المنظورة وخاصة ما ألحقته تلك التجارب بالبيئة، إن هذا الملف مازال يعتريه الكثير من الغموض ولهذا يجب على السكان أن يعيشوا في أمان صحي وبيئي." ويرى البعض أيضا بأن هذه المسألة، حلها يمر عن طريق فتح ملف حساس، وهو ملف الأرشيف الفرنسي في الجزائر، يقول بهذا الصدد، الدكتور عمار منصوري، وهو خبير جزائري في الهندسة النووية أن "الوصول إلى حل عادل لهذه القضية يجب أن يمر من خلال فتح الأرشيف الفرنسي والتحقيق في مجريات تلك التفجيرات، لأن الفرنسيين أخفوا أطنانا من النفايات السامة الناتجة عن التفجيرات النووية وهي غير معلومة لحد الآن، كما أن السحب المعبأة بالإشعاعات النووية مرت بكل سكان منطقة رقان، وانتقلت إلى خارج الحدود أي شملت المناطق المجاورة للجزائر. والحادث الذي وقع في الفاتح من ماي كان يشبه في حجمه حادثة تشرنوبيل الأولى". وحسب نفس الخبير، فإن آلاف العمال من فرنسيين وجزائريين جندوا عام 1960 في جنوبالجزائر لإنجاح عمليات التفجير النووي الفرنسي. وفي تلك الفترة، لم تكن السجلات دقيقة وفي أحيان كثيرة لم يكن العمال يملكون أي ملفات تشهد بالنشاطات التي كانوا يقومون بها في تلك المواقع أو الحوادث التي تعرضوا لها، وكل ما هو موجود لم يتم الكشف عنه إلى اليوم بسبب ما تسميه الجزائر "مشكلة الأرشيف الفرنسي المخبوء". بعد التطور العلمي والتكنولوجي الذي عرفه العالم في القرنين الماضيين، راحت الدول العظمى تتنافس وتتسابق لإنتاج وسائل التدمير، فأنتجوا أسلحة التدمير الشامل الفتاكة، ولعل أكثرها فتكا للزرع والضرع، السلاح النووي. وهكذا نشط التسابق نحو إنتاج القنبلة الذرية قبل الحرب العالمية الثانية، وكانت الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي أولى الدول التي طورت السلاح الذري، وكانت الولاياتالمتحدة الدولة الأولى في العالم التي استخدمته في المجال الحربي، والعالم كله يعرف ما صنعت القنبلتان الذريتان في اليابان، أثناء الحرب العالمية الثانية، لا مجال هنا لتفصيل ذلك. وقد حاولت بعض البلدان السير على خطى الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي، واللحاق بهما رغبة منها في إثبات وجودها على الساحة العالمية كدول عظمى، ومن بين هذه الدول، فرنسا، التي جندت كل طاقاتها لتطوير صناعتها العسكرية، أي السلاح الذري. ومن ذلك أنشأت محافظة الطاقة الذرية سنة 1945، بعد انتهاء الحرب مباشرة، وجمعت جهودها العلمية والعسكرية لصنع قنبلة ذرية "ماد إن فرانس"، وانتهت جهودها بصنع قنبلة ذرية، وكان لابد عليها من اختيار مكان لتجريبها، فوقع اختيارها على منطقة رقان بقلب الصحراء الجزائرية. في ذلك اليوم المشئوم، 13 فيفري 1960، تقول بعض المصادر، بأن فرنسا أحضرت عينات من حيوانات مختلفة مثل الدواب و الجمال والكلاب وفئران وغيرها، وبعض الأطعمة والماء والنباتات، كما أحضرت عشرات من المساجين، ونساء حوامل، وصبيان وشيوخ، لتستعملهم كعينات لتجاربها الأربعة، التي حملت اسم "الجربوع"، القنبلة الأولى كانت باسم الجربوع الأزق والثانية الجربوع الأبيض والثالثة اسم الجربوع الأحمر والأخيرة الجربوع الأخضر. وكانت فرنسا تتستر حتى لا يكشف أمر جرائمها، إلا أنها أجبرت على الاعتراف، كما جاء في قول الباحث منتصر أوبرترون أن فرنسا قامت رسميا ب 17 تفجيراً نووياً جوياً وتحت الأرض بين 13 فيفري 1960 و16 فيفري 1966 وفرضت السرية على كل المعلومات المتعلقة بتلك التفجيرات لتجد نفسها مجبرة عام 2006 على الإعلان عن 40 تفجيراً مصغراً أسمتها "بولان"، وهي قنابل تحتوي على البلوتونيوم الأخطر من اليورانيوم لتجريب أنظمة تفجير القنابل. تقول إحدى الدراسات التي تناولت موضوع التفجيرات النووية الفرنسية أن معظم التجارب أجريت على حيوانات المخبر كالفئران والأرانب، لكن أخلاقيات البعض ممن تعدوا على كرامة الإنسان، دفعت بهم إلى ارتكاب جرائم نووية باستخدام الإنسان هدفا للتعريض الإشعاعي، ذلك ما تم في الأربعينيات حيث استخدم الأمريكيون السجناء والزنوج وأبناء الأقليات غير البيضاء وشمل المرضى والمتخلفين عقليا أهدافا في تجاربهم. وتضيف الدراسة أن السلطات الفرنسية أقدمت على جريمة وضع عدد غير محدد من المجاهدين وأسرى جيش التحرير وعدد من المواطنين في تجربة رقان ليلة 13/02/1960. خلفت التفجيرات النووية آثارا سلبية خطيرة على الصحة، وظهر ذلك على الناجين من القنابل الذرية، بحيث انتشر بينهم سرطان الدم وسرطانات أخرى، ويرتبط ذلك بتلوث البيئة بالإشعاعات النووية، وتؤكد الدراسات بأن الأطفال الذين حملت بهم النساء الناجيات من الموت بعد التعريض يموتون بمعدلات أكبر، كما ثبتت تشوهات خلقية أو عدم اكتمال النمو، وحدوث حالات إجهاض مبكر. قالت المحامية فاطمة الزهراء بن براهم ورئيسة جمعية الدفاع عن ضحايا التجارب النووية: "إن دراسة أجريت كشفت بأن التجارب النووية خلفت آثارا يصعب حصرها"، وأضافت أن الدراسات كشفت أن الكثير من النساء الجزائريات أصبن بسرطان الثدي وهن في الثلاثينات من العمر، في حين أن سرطان الثدي عادة يصيب المرأة بعد الخمسين من العمر، موضحة أن لذلك علاقة بالإشعاعات النووية التي خلفتها التجارب الفرنسية. إن هذه الجرائم البشعة في حق الإنسان والحيوان والبيئة بصفة عامة، التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي، وأثبتها الواقع واعترف بها الفرنسيون أنفسهم، وأكدت البحوث والدراسات على الآثار الخطيرة التي خلفتها وتخلفها على صحة الإنسان، لتدعونا اليوم نرفع صوتنا عاليا ونضمه للداعين لدفع فرنسا على الاعتراف بجرائمها رسميا، وتقديم اعتذارها للشعب الجزائري، والكف عن التجاهل والمراوغة، وبعدها يأتي الحديث عن التعويض، فالتضحيات التي قدمها الشعب الجزائري ليست بالقليلة ولا الهينة التي تمحوها فرنكات حقيرة، ولعل أحسن ما أختم به هذا المقال، هو ما جاء على لسان المجاهد محمد الشريف عباس، وزير المجاهدين في مقدمة كتاب عن التجارب النووية الفرنسية في الجزائر، الصادر عن المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر: "إن استقلال الجزائر لم يكن نتيجة لمناورة جوفاء، أو هدية أعطيت له، من أي طرف كان، فالشعب الجزائري هو الذي ضحى، هو الذي استشهد، هو الذي تحرر"، ويضيف في مكان آخر: "نعم إن استقلال الجزائر جاء بفضل التضحيات الجسام، كان الاستعمار الفرنسي قد استعمل فيها مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة ومن ضمنها الأسلحة المحرمة دوليا مثل النابالم والغازات السامة، بل وتعرضت الأرض الجزائرية إلى أخطر الأسلحة على الإطلاق و هي الأسلحة الذرية من خلال التجارب التي أجريت في كل من رڤان وإن إكان بالهقار". فعلى فرنسا الرسمية أن تعلن عن حسن نيتها تجاه الجزائر، بالاعتراف بما اقترفته أيادي الإجرام في الفترة الحالكة من التاريخ المشترك بين البلدين، لعل بذلك يفتح باب عهد جديد يبنى على الصداقة التي ترفع شعارها.