مع تواصل عودة حجاجنا الميامين إلى أرض الوطن بعد أدائهم الركن الخامس في الشريعة الإسلامية، نقلت "النهار" إلى مطار هواري بومدين لرصد الأجواء التي ميزت استقبال العائدين من بيت الله الحرام، ووقفت على روايات حجاجنا في البقاع المقدسة، وصورت كابوس منا وعرفات، ليتحول حلمهم بأداء هذه الفريضة إلى "كورفي" ومأساة لن ينسوها طيلة حياتهم، ولعل بعضهم قد يصاب بعقدة تذكره بأسوأ ذكرياته في أطهر وأقدس الأماكن على سطح الأرض. تفاجأنا ونحن نلتقي أول الحجاج الذين وصلوا على متن الرحلة "sv5018" بغياب الابتسامة التي عهدناها على وجوه الحجاج العائدين من البقاع والظفر بلقب "الحاج" وتحقيق هذا الإنجاز الذي يعد بمثابة حلم بالنسبة للكثير من المسلمين، ولم تكن الفرحة بادية بقدر ما طغت عليها علامات التذمر والاستياء من انحطاط مستوى الخدمات المقدمة، وضعف أداء البعثة الجزائرية خلال هذه الفترة، والتي حكم عليها بالفشل التام من قبل العائدين ضمن ثاني دفعة وصلت أول أمس إلى تراب الوطن، التي حطت في حدود الساعة السادسة مساء برواق الحجاج التابع لمطار هوارين بومدين. وبعد خمس ساعات من الانتظار في أجواء جد باردة، تزامنت مع تهاطل كميات معتبرة من الأمطار، حطت أخيرا الطائرة بالجناح المخصص للحجاج على مستوى مطار هواري بومدين الداخلي، فبعدما كان من المقرر أن تصل على الساعة الواحدة زوالا، تم تأخيرها في المرة الأولى إلى الساعة الثالثة من ظهر أول أمس، قبل أن تصل أخيرا في حدود السادسة مساء. البعثة الجزائرية...."ماتسواش" كان الحاج محمد 57 سنة، إطار سام بإحدى المؤسسات الوطنية، أول من التقيناه، ليؤكد أنه كان يود ملاقاتنا ليحكي ما حدث معه، فرغم التعب والإرهاق الذي طغى عليه، لم يكن يريد العودة إلى مسكنه ولا ملاقاة أفراد عائلته، قبل أن يفشي عن المعاناة والويل الذي بات يطارده منذ أن وطأت أقدامه الأراضي السعودية، وفي ظرف دقائق معدودة راح الحاج محمد يصور لنا الجحيم الذي عاشه خلال أدائه لأقدس ركن في الإسلام، حيث أخذت المعاناة أوجه عديدة على حد قوله، بداية من ضيق مساحات الإقامة وقلة أماكن الاستقبال، أين تجاوز عدد الحجاج 7 أفراد في غرفة النوم الواحدة، مما جعل حصة كل واحد منهم جد صغيرة ولا تتجاوز الأمتار المعدودة، مشيرا إلى أن عدد الحجاج الجزائريين كان جد مرتفع مقارنة مع الإمكانات الموفرة من قبل البعثة، الأمر الذي يحتاج للمراجعة والدراسة في السنوات القادمة حتى لا يتكرر نفس السيناريو، فضلا عن غياب شبه مطلق للمرشدين الدينيين، زاده تعقيدا ضعف المستوى التعليمي لأغلبية الحجاج، هؤلاء الذين لم يجدوا ?يضيف محمد- من يرشدهم أو يوجههم في مختلف مراحل العبادة، مما تسبب في تيهان البعض ومواجهة عراقيل كبيرة من قبل البعض الآخر حول كيفية آداء مناسكه، حيث أن غياب جانب الاستعلامات وعدم تأطير هذا الجانب، جعل الجميع يتوه في فضاء واسع مرهون بزمن محدد. 10 مراحيض لألف حاج ولدى تعريجه على ما جرى في "منا"، أكد الحاج أن هذه الأخيرة احتضنت أبشع كابوس مر به الجزائريون وفضحت سوء التنظيم الذي خيم على البعثة الوطنية، قائلا: "رأينا نساء ينمن في الهواء الطلق..... الخيم كلها كانت مبللة والمياه حارصرتنا من كل جهة.....تم تخصيص 10 مراحيض لأزيد من ألف حاج، كل هذه المعاناة وغيرها دفعت بمحمد إلى الجزم بأن البعثة الجزائرية في السعودية "ماتسواش" وهي والصفر سيان، خاصة إذا ما تم مقارنتها بباقي البعثات، وفي مقدمتها البعثة المغربية والعراقية وغيرها من البعثات التي حضيت باستقبال رفيع وظروف إقامة حسنة، ومرافقة مستمرة من طرف أفراد البعثة إلى آخر لحظة بمطار السعودية مما سهل من آداء المناسك وتخفيف العراقيل التي قد يواجهها الحاج ببيت الله الحرام. "النساء" باتوا فوق بعضهم في"منا" ولم تختلف السيناريوهات عن بعضها البعض بناء على تصريحات الحجاج العائدين على متن الرحلة ذاتها، بحيث اتفق كل من الحاج "كرباج بلقاسم"، 71 سنة وحرمه، إلى جانب شقيقته على أن التنظيم الخاص بهذا الموسم كان الأسوء منذ قرابة 15 سنة تعودوا خلالها على زيارة الكعبة الشريفة لآداء مناسك الحج أو العمرة على حد سواء، مبرزين أن هذه السنة ميزها غياب شبه مطلق لأفراد البعثة الجزائرية من مرشدين ومؤطرين يسهرون على تنظيم مختلف مراحل تواجدهم بالأراضي السعودية أو التكفل بانشغالاتهم، قبل أن تردف شقيقة الحاج بلقاسم قائلة إن النساء نمن فوق بعضهن البعض لمدة 4 أيام خلال تواجدهم ب"منا"، نظرا لضعف طاقة استيعاب المخيمات المخصصة لاستقبال الحجاج الجزائريين وسوء تنظيمها، ومما زاد الطين بلة بأتم معنى الكلمة، حسبما أوضحته المتحدثة، تدهور الأحوال الجوية حينها وتساقط كميات معتبرة من الأمطار جعلت الخيم تغرق في الأوحال بعد أن غمرتها المياه، وجعلت من مسألة أمرا مستحيلا، مما أثر بشكل كبير على نفسية ولياقة الحجاج الذين لم يتذوقوا طعم النوم لأيام متواصلة. وواصلت الحاجة، مبرزة أن معانتهم لم تتوقف عند هذا الحد، بل استمرت إلى آخر لحظة، والتي اختتمت بالاستفزازات التي تعرضوا لها من قبل مصالح الخطوط الجوية السعودية على مستوى المطار دون أن يتدخل أحد من أفراد البعثة لفك أسرهم، حيث تم تأجيل رحلتهم لمرات عديدة عاشوا فيها أخذا وردا بين مختلف المصالح على مستوى المطار، لا سيما فيما يتعلق بميزان البضائع، أين كان يتم فرض مبالغ جد خيالية على كل كلغ زائد عن الوزن المحدد، تجاوزت قيمته 67 ريال، مما دفع بالكثير من الحجاج الجزائريين إلى التخلي عن بضائعهم بعين المكان خاصة من لم يكن معهم المبلغ الكافي لتسديد المستحقات. "أربعة أيام وأحنا للشّر....." "أربعة أيام واحنا للشر"، جملة قالتها في زحمة غضب الحاجة مليكة 59 سنة، وشدت انتباهي عندما سمعتها وهي تتذمر من ظروف إقامتها بالبقاع المقدسة، وبالتحديد في "منا"، قبل أن ترد على سؤالنا أنها لم تتوقع يوما أن يجري معاملتها بنفس الطريقة التي جرى عليها موسم الحج الجاري، مضيفة أنه لحسن حضها أنها قامت رفقة شقيقتها من قبل بزياة الكعبة الشريفة في إطار العمرة، الأمر الذي سمح لها بالاطلاع على الإطار العام لمناسك العبادة، غير أن الأمر على حد قولها، مختلف تماما بين الحج والعمرة، والسبب سوء التنظيم الذي طغى على العملية، حيث كان الحجاج ملزمين بالاعتماد على أنفسهم في كل شيء وعلى ميزانيتهم لتسديد أغلبية تكاليف تنقلاتهم. وعن سبب تلفضها بالعبارة ذاتها، أكدت الحاجة أنها مرت رفقة شقيقتها بظروف جد صعبة لدى تواجدها ب"منا"، ولم يسعفهما الحظ في الحصول على الطعام الكافي لسد جوعهما، وهو ما حدث لأغلبية الحجاج الجزائريين حينها، فالجميع كان يتدبر غذاءه بطريقته الخاصة، مشيرة إلى أن أهم شيئ أثر فيها خلال هذه الفترة هو رائحة اللحم الذي كان يتم شواؤه يوم العيد من طرف بعض الحجاج في البعثات الأخرى وأقلية جزائرية، دون أن تتمكن هي والكثيرين من تذوق طعمه. المرشدون نحاو "الجيلي" وتخلطوا مع الحجاج ولعل من أقبح ما واجهه حجاجنا الميامين هذه السنة، هو تخلي أفراد البعثة عن أداء واجباتهم، فحسب الحاجة "سعيدة" 68 سنة، فإنها لم تشاهد أي علامة أو إشارة تشير إلى عناصر البعثة الجزائرية هؤلاء الذين قاموا على حد قولها، بنزع الأقمصة الخاصة بهم، واندمجوا في صفوف الحجاج وانشغلوا بالعبادة عوض تقديم المساعدة لمن يحتاجونها، مما انعكس سلبا على أداء البعثة وتسبب في تيهان الكثير من الحجاج، بحيث كانوا يسترشدون فقط بإحدى الكرات الكبرى التي تم تنصيبها على مستوى مخيم الجزائريين بما يشير إلى مكان إقامة أفراد البعثة الوطنية. وأضافت المتحدثة، أن أشكال المعاناة لم تتوقف عند هذا الحد، بل عرفت ذروتها في "منا"، أين تم استضافتهم في مخيمات تضم الواحدة منها أزيد من 100 حاج، لم يجدوا كيف ينامون خاصة بعد أن تبللت ملابسهم وغرقت الزرابي المخصصة للنوم في مياه الأمطار الكثيفة التي تهاطلت على المخيمات، وحاصرت الأوحال المساحة المخصصة للبعثة، وأكدت الحاجة سعيدة أنها كانت تنوي تصوير الأحداث التي عايشها بعين المكان، غير أن غياب المأخذ الكهربائية في الخيم عرقل عملية شحن البطاريات ومن ثم استحالة اتصال الحجاج بذويهم طيلة هذه الفترة. "دعاوي الخير" للطاقم الطبي والحماية المدنية بشهادة الجميع واعتراف من التقيناهم أمسيتها، حظي عناصر الطاقم الطبي إلى جانب أعوان الحماية المدنية المرافقين للبعثة الجزائرية إلى الأراضي السعودية، بدعوات الخير وتقدير الحجاج العائدين، إثر تكفل هذه الفئة بتقديم يد المساعدة والعون لمن كانوا بأمس الحاجة إليها في ظل الإهمال الذي واجهوه بعين المكان، حيث تولى أفراد الحماية إجلاء التائهين وإعادتهم إلى الخيم إلى جانب التدخل السريع عند إصابة أحد الحجاج بالتهابات أو جروح مختلفة، وأجمع الحجاج على منح العلامة الكاملة لرجال الحماية المدنية والطاقم الطبي الذين لم يتفانوا في تأدية دورهم على أكمل وجه، بشكل يشرف البعثة ويسمح بأداء المناسك في ظروف مؤمنة، خاصة بالموازاة مع الانتشار الرهيب لداء أنفلونزا الخنازير الذي بث الرعب في نفوس المتنقلين إلى البقاع، وخلق حالة من توتر في أوساط الحجاج.