في قرية الشراقة وهي منطقة جزائرية مغربية، تقع على الشريط الحدودي مع المملكة المغربية، وقفنا على الصعوبات الميدانية التي يواجهها أفراد حرس الحدود في مكافحة التهريب بأشكاله، فلا يفصل بين الشراقة المغربية والشراقة الجزائرية إلا طريق ترابي ضيق جدا وتشكل هذه القرى القاعدة الخلفية لشبكات التهريب، خاصة الوقود والمخدرات، بعد أن تحولت إلى مخازن للسلع المهربة و''أحزمة أمنية'' ضد حرس الحدود الذين يعترفون بتواطؤ العائلات المقيمة على الشريط الحدودي، في سكنات لا تملك رخصة بنائها، كما حولت أراضيها الفلاحية إلى ممرات لسيارات وحمير المهربين مقابل مبالغ مالية. في الحدود، اكتشفت مصطلحات غريبة، و''الحلابة'' كلمة تعني مهربي الوقود، لكن هناك اكتشفت مهنا جديدة مثل ''القطارة'' وتعني مهربي الوقود بالتجزئة و''البراية'' وهم عيون المهربين الذين يوفرون المعلومات لهم عن تحركات رجال الأمن وهم شباب يقيمون بالمناطق الحدودية وهؤلاء يتقاضون مقابلا يتعدى بكثير راتب موظف، حيث يتلقى مبلغ 1500 دج عن كل عملية، يتم تجنيده لرصد تحركات حرس الحدود ويستفيد من منحة في حال نجاح عملية تهريب أو إنقاذ مهرب من كمين، وفي المقابل يوفر له المهربون هاتفا نقالا مع تعبئة رصيده، ويتم تجنيد بعضهم أمام مقرات فرق الدرك للإبلاغ عن أية تحركات. ربي فقط مع ''جي.جي.آف'' وأهالي الشريط الحدودي عائق كبير رافقنا المقدم العربي بوزيان، قائد المجموعة ال19 لحرس الحدود بباب العسة ليلة أول أمس، في خرجة ميدانية إلى بعض المناطق الحدودية للوقوف ميدانيا على عمل حرس الحدود الذين يشرفون على مراقبة مساحات شاسعة، تنقلنا على متن سيارات ''تويوتا'' عبر مسالك ترابية وطرقات متدهورة، كونها ممرات سيارات المهربين أو ما يعرف ب''المقاتلات''، وهي سيارات بدون ترقيم ووثائق، وتم نزع الصندوق الخلفي لتعبئة صفائح الوقود والسلع المهربة، لكنها تتميز بالسرعة والمقاومة، ومنه استمدت اسم ''مقاتلات''، حيث من الصعب توقيفها.ولفت انتباهي عند التنقل إلى مركز المراقبة المتقدم، انتشار عدد كبير من الأحمرة أمام مساكن العائلات في المناطق الحدودية، وهي أحمرة ''بوبونة'' ''جميلة'' تتميز ''بصلابة العضلات''، ما يكشف خبرتها في التهريب وحمل صفائح الوقود ومختلف السلع المهربة ويصل سعر الحمار إلى 20 ألف دج لدوره الأساسي في عملية التهريب حيث يعبأ بالسلع المهربة بعد إعطائه كمية من العلف تشعره بالعطش، ليجد الماء في الضفة الأخرى.وفي هذا المكان، يكتشف المرء أن الحمار ليس حيوانا غبيا أبدا كما نعتقد، حيث يدرك مسالك التهريب ويحفظ جيدا تعليمات صاحبه ويؤدي واجبه بأمانة أيضا وهو كتوم لا يكشف عن هوية صاحبه (...). ''المخازنية'' ...موظفون إداريون وتحيا اولاد بلادي اتجهنا إلى المركز المتقدم للمراقبة بحاج ميلود، ومررنا بقرية جزائرية مغربية يفصل بينهما طريق ترابي، أغلب السكنات عبارة عن ''فيلات'' وأخرى في طور الإنجاز وتم تخصيص جزء منها لتخزين السلع المهربة من وإلى الحدود، سألت المقدم بوزيان: لماذا لا تقومون بحملات تفتيش في هذه السكنات لحجز الوقود والمخدرات، ليرد أن العملية ليست بسيطة، فكثير من العائلات تزعم أن الوقود المحجوز هو خاص بالإستهلاك الشخصي واستعماله في الفلاحة، ''كما لا يمكن القيام بالتفتيش يوميا'' وطرح إشكال استقرار العائلات بالشريط الحدودي التي تربطها علاقة مصاهرة بالعائلات المغربية وقرب سكناتها وهو ما يقود أيضا إلى تعاون بين العائلات في مجال التهريب.قطعنا مسافة طويلة عبر مسالك ترابية ولا أثر لمدرسة أو إدارة أو وسيلة نقل، وتساءلت كيف يتنقل الأطفال إلى المدرسة سيرا على الأقدام وكذلك الموظفون، لكني اكتشفت لاحقا أن أغلب شباب القرى الحدودية يعملون ''حظاية'' و''براية'' يعني أنهم عيون المهربين الذين تم تزويدهم بأجهزة هواتف نقالة وتعبئة رصيدهم لنقل تحركات دوريات حرس الحدود في مناطق متفرقة وإبلاغهم بالمخطط الأمني مقابل 1500 دج لليوم الواحد ويتحصل بعضهم على منحة عند ''انقاذهم'' من كمين.في الطريق إلى مركز حاج ميلود، تمكنا من معاينة المخطط الأمني، حيث تم نشر خيم خضراء تابعة لحرس الحدود في العديد من المسالك التي تعد ممرات المهربين، إضافة إلى دوريات غالبا مترجلة، ولاحظت انتشار أفراد حرس الحدود في العديد من النقاط، مجندين بأسلحتهم من نوع رشاشات ''كلاشينكوف'' ويرتدون واقيات رصاص ومزودين بمنظار لرصد تحركات المهربين الذين ينطلقون في النشاط في الفترة الممتدة من المغرب إلى الفجر، مستغلين ظلمة المكان وصعوبة تضاريس المنطقة، فلا وجود هنا للإنارة والطريق متدهورة، مما يفرض رفع اليقظة خاصة وأن العديد من المهربين حاولوا في العديد من المرات دهس عناصر حرس الحدود عند محاولتهم لوقفهم. العمل في الحدود يعلم ''الرجلة'' وينمي حب الوطن والدفاع عنه قبل وصولنا، مررنا بمحاذاة مركز مراقبة متقدم تابع ل''المخازنية''، تم طلاؤه باللون البرتقالي ورفع العلم المغربي في الأعلى، في ''القاريتة'' لم يكن هناك أحد، ووجدنا أفراد الدرك الملكي والجيش المغربي وراء المركز يتسامرون، كانوا يرتدون بذلات رياضية وبعضهم يرتدي فوقها المعطف العسكري ونعالا جلدية ومجردين من الأسلحة بعد انتهاء الدوام، وبدوا مثل ''الزوافرة'' ، قبل أن ينتفضوا من مكانهم عند رؤية مدنيين داخل سيارات الدرك الجزائري، واتجه تفكيري حينها إلى أفراد حرس الحدود الجزائريين المجندين 24 ساعة على 24 ساعة ولمست الفرق في انضباط عناصرنا وتجندهم لتأمين حدودنا دون انقطاع، ووعيهم بالمسؤولية على خلفية أنهم الصفوف الأمامية لحماية الوطن على الصعيدين الأمني والإقتصادي، بينما في الضفة الأخرى يؤدي ''المخازنية'' عملا إداريا ينتهي في الخامسة، وتذكرت مشهد ذلك الدركي الشاب الذي تجند حديثا في صفوف الدرك قبل تحويله للعمل بالحدود، إلتقيته في خيمة غير بعيد عن المركز المتقدم ''لالاعيشة'' عمره لا يتجاوز 22 عاما، كان يومها في استراحة، ولم يستطع مقاومة البرد والمطر الغزير داخل الخيمة وإختار أن يبقى في الخارج، ولاحظت أنه ورفقاؤه يتناولون وجبات باردة جاهزة، لست أدري إن كان يصح التعليق، لكني شعرت بفخر سري بهؤلاء ورددت في قرارة نفسي ''تحيا اولاد بلادي''.وصلنا إلى المركز المتقدم حاج ميلود، وأشار المقدم بوزيان إلى موقع المركز المتقدم لالا عيشة من بعيد بالقول ''انظري الفراغات في المساحة الشاسعة، صحيح وضعنا خيم وكثفنا من عدد الدوريات لكن ذلك يبقى غير كافي ولا يمكن السيطرة على الوضع كاملا، ''موضحا أن المهربين يستغلون هذا الوضع للمرور والتنقل.وتختلف قرية ''الشراقة'' التي تنقلنا إليها لاحقا عن قرية السواني، هي أشبه بقرية في منطقة القبائل حيث تنتشر أشجار ''كرموس النصارى''، وجدنا عجوز ''مروكية'' ألقت علينا السلام وكانت تتنقل في القرية الجزائرية المغربية، حيث لا يمكن هنا الفصل بين السكان، لكن ما لفت انتباهي هو أن أغلب جدران المنازل كانت مبللة في الأسفل ولاحظنا انتشار صفائح الوقود الزرقاء ''مصطفة'' علمنا أن السكنات تعد مخازنا للوقود المهرب قبل إعادة بيعه للمغاربة.وسارعت ''تويوتا'' تابعة للجيش المغربي لتعقب أثرنا عند تنقلنا إلى ''الشراقة''، ويتخوف المغاربة من رد فعل سكان المنطقة الحدودية بعد مقتل الشاب هشام بن عاشور، على يد جندي مغربي، ولم نتمكن من التمييز بين الجزائريين والمغاربة في هذه القرية الصغيرة، فهم يتحدثون نفس اللهجة وكتب على جدار منزل مغربي مقابل لمسكن جزائري ''الحدود الجزائرية المغربية''، مرفوقة بصورة قط. أثناء زيارتنا، وقفنا على بعض نشاطات حرس الحدود في ذلك اليوم، حيث تم حجز كمية هامة من المشروبات الكحولية من أنواع مختلفة بمنطقة ''الخياطة'' في ساعة مبكرة، ولاحظ قائد السرية رقم 192 بسيدي بوجنان النقيب دغمان، أنها خمور مغشوشة، وقد تؤدي إلى إصابة مستهلكيها بسموم، وكشف عن تهريب الزجاجات داخل أكياس بعد تغليفها جيدا وذلك على ظهر حمير، كما تم حجز كمية من ''المندرين'' كانت مهربة داخل صفائح تهريب الوقود، ولفت ضابط بالسرية الإنتباه الى تصدير مواد أساسية إلى المغرب مقابل استيراد مواد سامة، حيث لا يستبعد أن تكون ''المندرين'' مسقية بمياه قذرة بعد ضبط العديد من المزارعين، يقمن بذلك بسبب ندرة المياه. المقدم بوزيان ..هذه البداية ومازال مازال ويشير تقرير، أعدته قيادة المجموعة ال19 لحرس الحدود حول حصيلة نشاطها خلال سنة 2009، إلى تراجع نشاط التهريب واختفاء نهائي لبعض المواد المهربة في سنوات سابقة لنجاعة المخطط الأمني الذي تم اعتماده في الأشهر الأخيرة، منذ تعيين المقدم بوزيان على رأس المجموعة، حيث تم حجز كمية من الوقود الموجه للتهريب خلال 5 أشهر تعادل كمية محجوزة خلال سنتين، وقال المقدم بوزيان إنه تم إحباط العديد من عمليات التهريب لإصطدام المهربين بالرقابة المشددة وركز على التواجد الميداني لحرس الحدود، مع اعتماد خريطة انتشار مدروسة، حسب تحركات المهربين، وقال المقدم بوزيان أنها ''البداية ويحرص على تحقيق نتائج ميدانية فعالة في مكافحة التهريب''. وبلغة الأرقام، حجز أفراد المجموعة ال17 لحرس الحدود بباب العسة خلال العام الماضي، أكثر من 800 ألف لتر من المازوت والبنزين المهرب، كما تم حجز 70 ''مقاتلة''، وهي السيارات المستعملة في التهريب و13 دراجة، بينما كان عدد السيارات المحجوزة عام 2008 لا يتجاوز 27 ''مقاتلة''.و''المقاتلة'' حسب ما عايناه ميدانيا، سيارة ''كاميكاز'' تمت إعادة تهيئة صندوقها الخلفي لتخزين السلع المهربة ولا تحمل لوحة ترقيم ولا يحوز صاحبها على وثاقها وأغلب ''المقاتلات'' من نوع ''رونو21'' و''بيجو'' و''مرسيدس'' لقوة مقاومتها المسالك وأيضا لإمكانية توسيع خزان الوقود.وسجل عدم حجز مادة أساسية، كانت تهرب إلى المغرب في وقت سابق مثل الفرينة والسميد والأسمدة الفلاحية، خاصة الفوسفات والأمونيترات والذخيرة الحربية.وبلغت كمية المخدرات المحجوزة من طرف حرس الحدود بباب العسة 8 قناطير من الكيف، واللافت أن تضييق الخناق دفع المهربين إلى تركيز نشاطهم على المواد التي تحقق لهم الربح وهو ما يفسر مغامرتهم بتهريب المخدرات والوقود والخمور لأنها عائداتها أكبر تستحق المغامرة.