قبل سنوات خلت، رتبت أحلامي وأنا أوضِّبُ أمتعتي الدراسية… سَقَطُ المَتَاعِ منها تدحرج جانبا ليمسك الجيّد منها بيدي وأنا أدقُ أديمَ مدرج المغرب العربي هناك أقصى كلية الإعلام والإتصال… الكليةُ كانت وجهتي بعد مغادرتي لكُلية الحقوق ذات مساء من العام 2009 دون رجعة، كنت أعتقد أنني تخلصت أخيرا من مذاكرة ميثاق حقوق الإنسان واستراق الأعذار والأوهام لتبرير الأفعال الشنيعة أو إدانة غيرها حَسَنَا.. لست مجبرا على فعل كل هذا وغيره مما يزين أروقة المحاكم وما يملأ قاعات الفصل في المنازعات واقتياد أطرافٍ منها نحو السجون والمتاهات الضيقة أو الإفراج عن آخرين مقابل دنانير معدودات. كان أول يوم أحسست فيه بالإقتراب من تحقيق حلمٍ كنت قد غفوت عنه قليلا، كنت أحلم أن أصبح كاتبا جيدا، كاتبٌ يفقه رسم الجمل وكتابة الكلمات وشكل الحروف قبل ترتيبها لا غير.. بعيدا عن الكلية التي تخرجت منها بشهادتي الليسانس والماستر دون التفكير في المجازفة أبعد من ذلك، وجدت نفسي في عالم أكثر غموضا من الأروقة والمتاهات التي حدثتكم عنها آنفا، عالم الإعلام الذي عُلِّمنا منطقه قبل الوصول إليه واقعه متاعبٌ ومصائبٌ وشدائد.. مجازفة أكثر من أي شعور آخر يفتخر كل الصحافيين بمهنتهم النبيلة قبل الخوض في كل جزئية من شأنها أن تعكّر صفوَ الصحِّ الذي يؤمنون به والآفات المنسجمة هنا وهناك تلذغ كل شيء يشع بالحياة. الإعلام يشبه إلى حدٍ كبير مجالات الحياة المختلفة في أغلب الأحكام الصادرة بحقه وبحق أصحابه.. الإعلام يحتاج إلى أرواح حساسة كما يحتاجها الطب والعلم والرسم .. الإعلام يملك من السلطة والقوة ما يراه السياسيون مِلكا لهم وحدهم في حرية تحريك قطع الشطرنج ابتداءً من الملوك والوزراء إلى الفيلة والجنود مرورا بالخيالة والقلاع ! باختصار تسيير شؤون الرعية طوعا أو كُرها. الإعلامي وحده فقط من يملك حق التصرف في كل شيء، الخوض في مجالات الحياة المختلفة والتطرق لأعتى وأعقد مشاكلها وعثرات أسيادها دون تحفظ.. من تجاربي المهنية أنني لما كنت أكتب بجريدة وطنية عن الشؤون المحلية للعاصمة تلقيت ثلاثة إعذاراتٍ باللجوء إلى القضاء والمحاكمة، تماما كما يُفعل بالقتلة والمجرمين.. استطعت قبل سنوات رفقة زميل لي أن أجبر وزارة التربية الوطنية على تشكيل خلية أزمة لمتابعة شبكة إجرامية ضربت بمصداقية البكالوريا في الجزائر.. حركتُ بفضل تقارير وقصص إخبارية سلطات وصية على قضايا ومشاكل جمّة من عمق المجتمع ومن داخل مكاتب بعض المسؤولين.. تُوجت أفضل أعمالي الصحفية في مسابقات وطنية بتوفيقٍ من الله، كل هذا ولا أزال أطمح لتجاوز عقبات كثيرة أريدَ لها أن تكون وخُيّرتُ أنا أن أكون من دونها أو لا أكون بوجودها، لهذا أنا أكتب لكم هذه الكلمات سرّا وجهرا وقصرا مجبرا لا بطلا . حين فكرت في كتابة هذا تساءلت عن شيء مختلف أعدو به متسلقي الأكتاف أعداء النجاح، كل ما أقوله عنهم يعرفه القاصي والداني، المتمرس والممتهن وحتى العاطلون عن العمل بسبب وجوه مشابهة. قبل موعد النشر بساعات، مزقت مقالي وكتبت مجددا، وحين وصلت إلى هذه العبارة أضفت.. أغلب الصحافيين والإعلاميين في العالم يشغلون مناصب تحمل رتبة وظيفة، الوظيفة التي يقولون عنها أنها تحمي من الفقر كما تمنع من الغنى، يموتون في سنّ مبكرة لأسباب نفسية ! تتشابه وظيفة الصحافي مع غيرها من المهن والحرف والأشغال ما شاءت القوانين واللوائح والقرارات لها أن تتشابه، لكن في لغة الإعلام هل يحيط غيرنا بمعنى توقيع الصحفي الذي يلي كل مقال إخباري أو تقرير استقصائي، أو منشور احترازي.. إنه الإعتراف والتوثيق والشاهد والنص والحجة والبرهان الذي قد يجني على الصحفي مهما رافقه من دعم أو رفض أو تنديد لقضية ما، مع العلم أن أقلام ذاك التوقيع تحت رحمة حُراس البوابات ومنه إلى أعداء النجاح الذين ما انفكوا يحملون من أدناهم سفهَ الخطأ وبساطة المعنى أو دناءة التفكير إن جاء ما ينتقصه من أعلى، بالمقابل تراهم أسودا معتزين بحصاد ثمار لم يكن لهم فيها ناقة ولا جمل، لكن أنا أقول لهم مثلما قلت لهم ذات مساء، التائهون في حقول الإعلام بحثا عن عثرات أسيادهم لا يستحقون البقاء فيها، الموتُ أرحم من الغرق في أعماق نجاحات الآخرين، الطموح حق مشروع وعلى الفاشلين الخضوع، ولو دامت لغيرهم ما وصلت إليهم. متسلقو الأكتاف دائما هم من يتقدمون الصفوف لتلقي التشكرات والتبريكات على حساب غيرهم، هم الذين يحملون الأسفار في كل البدايات سواء حَوَت خيرا أم شرا لكنهم ينقلبون على أعقابهم حيال آخر إيقاع.. يقولون أن الفرص تتضاعف كلما انتهزتها لكنهم لا يذكرون بأن الفرص كذلك لا تُراقص إلا من يتفنن في مغازلة العاملين عليها والقادرين على منحها والتودد لهم بل ولعق أطراف ما كان لها أن تُلعق إلا من قبل دُودٍ تحت تراب هذه الأرض، وإلا ما كان لنا أن نلاقي الفشلةَ من القوم أمامنا، الرويبضة مكانهم أسفل منا وأوزارهم غيرُ مرغوب فيها ! صدقوني كنت أودُّ أن أخوض فيما هو أعظم وأبعد من مستوى لا يقدر على التخلص من أخطاء لغوية سطحية جلية في ترتيب مسؤوليات بسيطة، لكن تأبى أناملي إلا أن تنهي هذا المنشور رحمة ببعض المتحيزين إلى فئة باهتة.. وراء الأكمة ما وراءها ولكن ليس باستطاعة فاشل مثلي أن يُغير ما أصاب القوم من زملاء مهنتي، عَدَا هذه الكلمات التي أخُطها لهم بقليل من الحب وكثير من التحفظ.