كان يلازمه كظله زميله الذي جاء معه من عنابة إلى مدرسة راحول·· رحمه الله، وكان قصير القامة وأحدبا وكان صالح خوري يحميه من أي ظلم يمكن أن يتعرض له في الجامعة أو في الحي الجامعي أوحتى في الشارع ··لأن صالح كان بطل الشرق في الملاكمة في الستينيات··! ويحكى عنه أنه هزم أحد خصومه بالضربة القاضية ولكنه عندما هوى على الأرض احتضنه صالح كي لا يسقط·· هذه هي شهامة صالح··! في سنة 1972 التحق بنا صالح في المحافظة السياسية للجيش في نهج كاسكون بمحاذاة قصر الشعب·· كنت في السنة الثانية للخدمة الوطنية وكان هو في سنته الأولى، تدربت أنا في الأكاديمية العسكرية لمختلف الأسلحة بشرشال·· وتدرب صالح في مدرسة البليدة لضباط الإحتياط··· كانت أكاديمية شرشال بها العديد من الضباط المدربين الأكفاء والذين عاملوا طلبة الخدمة الوطنية معاملة خاصة·· كان من بين هؤلاء الرائد سي العربي لحسن، مدير التدريب آنذاك·· والرائد نور الدين صحراوي رمضاني محمد ونفله ··· وقريص ولعويرة وطبطاب والطيب الدراجي·· وغيرهم، ويؤطر الجميع العقيد محمد الصالح يحياوي قائد الأكاديمية·· كنا في الأكاديمية نأخذ أشياء جديدة لم نأخذها في الجامعة·· كانت معاملتنا كطلاب جامعة نؤدي الخدمة الوطنية معاملة خاصة·· ولعلها كانت توجيهات بومدين·· خاصة أننا كنا الدفعة الثالثة للخدمة الوطنية· هذا الجو لم يتوفر لمجموعة صالح خوري في البليدة، حيث عوملوا بالخشونة المطلوبة كعسكر، ولم تراع فيهم الخصوصية الطلابية كطلاب خدمة وطنية، وتعرض صالح إلى مضايقات من طرف الكابرانات والسراجن، ولم يتحمل الوضع فقام باستخدام مواهبه في الملاكمة··! مما أدى إلى أن حقد عليه بعض المدربين وعوض أن يتخرج ضابطا احتياطيا·· أعطيت له رتبة سارجان··! وبأنفته المعهودة رفض أن يعلق هذه الرتبة على كتفيه·· وفضل أن يبقى جنديا بلا رتبة·· وحضر إلى المحافظة السياسية كجندي·· ولذلك أرادوا إسكانه مع مجموعة الجنود وليس مع صف الضباط أوالضباط· كنت مع الزملاء زهاني محمد ورويبح حسان وبرطال الطاهر وبومحرز رابح، نسكن فيلا مخصصة لضباط الإحتياط في قلب الثكنة·· وكنت أسكن غرفة لوحدي·· فدعوت صالح خوري لأن يقاسمني الغرفة ولا يبقى مع الجنود·· ففعل، ولكن أحد الضباط لم يعجبه الأمر فكتب تقريرا لمدير مجلة الجيش المرحوم النقيب حمودة عاشوري، فاستدعاني لتوضيح الأمر، فقلت له إن سي صالح من الطلاب المظلومين في البليدة، وتفهم المرحوم حمودة الأمر وتركه معنا··! وعلم سي صالح بصاحب التقرير واستخدم معه كالعادة مواهبه في الملاكمة، وكاد الأمر أن يتجه إلى منحى آخر لولا تدخل المقدم الهاشمي هجرس الذي أغلق الملف··! وبهذه الصفة قاسمت المرحوم خوري الغرفة بفيلا الضباط مدة سنة كاملة·· ولاحظت أنه كان يشرب دائما ماء سعيدة لا يشرب الماء العادي، وسألته عن السبب فقال لي: إن ماء سعيدة يصلح لتنظيف الكلى··! وتشاء الصدف أن يموت صالح بداء الكلى بعد 40 سنة··! كنت أنادي صالح باسم ''النتشة''، وهي تعني قطعة اللحم الصغيرة··! وكان ينادي أيضا باسم ''الوفد'' ولكل منهما حكاية· كنت أناديه بالنتشة، رحمه الله، لأنه كان يحب كل شيء جميل فيهتز له··· وعندما أعبت عليه الإفراط في هذا قال لي: إن القلب نتشة وتتحرك وما ذنبي أنا··! أما أنا فقد أطلق عليّ اسم ''الوفد'' بسبب أننا قمنا بمهمة في إطاراتحاد الصحافيين إلى العراق·· كان هو رئيس الوفد وكنت أنا الوفد·· وكنت أستغله كرئيس للوفد في فعل كل شيء·· في تسجيل الأمتعة في الطائرة وفي إطفاء الأضواء في الغرفة··! وهو إنسان خدوم لغيره··! ولكنه تفطن إلى أنني أستغله فقال لي رحمه الله غاضبا: رئيس الوفد لا يخدم الوفد·· بل الوفد هو الذي يخدم الرئيس··! وكنا في اجتماع بجامعة المستنصرية ببغداد عندما انفجرت القنبلة الإيرانية التي كانت سببا في اندلاع الحرب العراقية الإيرانية·· وقد نال رحمه الله نصيبه من شظايا الزجاج الذي تطاير من الإنفجار··! وكان معنا آنذاك المرحوم عيسى ناجم رئيس الإتحاد الوطني للفلاحين · وعند العودة من بغداد كان على متن طائرة الخطوط الجوية الفرنسية في طريقنا من بغداد إلى باريس·· وفوق الجولان المحتلة شاهد رحمه الله من نافذة الطائرة المقاتلات الحربية الإسرائيلية وهي تحوم حول الطائرة الفرنسية وتجبرها على النزول إلى مستويات تحليق منخفضة·· لأن التحليق العالي مخصص في هذه المنطقة الحربية للطيران العسكري ونزلت الطائرة إلى أقل من 5 آلاف قدم·· وتدفقت أكواب القهوة والأكل على ملابسنا بفعل ارتعاد الطائرة في المطبات الهوائية··! وقال لي رحمه الله عندما تحط الطائرة في بيروت سأنزل ولا أتم الرحلة مع هذه الشركة··! ولكنه بدل رأيه عندما حطت الطائرة في مطار بيروت وشاهد من النافذة أرضية المطار مدججة بالمسلحين والخنادق في عهد الحرب الأهلية اللبنانية، فقال ··أموت في السماء خير من أن أموت في الأرض··! فالموت على متن الخطوط الفرنسية يضمن لأبنائي حياة كريمة من بعدي··! رحمك الله يا سي صالح، فقد ذكرني رحيلك بفيلم ذكريات الشباب الذي كان يحلم بأن يكون الوريث الشرعي لأعظم جيل أنجبته الجزائر في العصر الحديث ..ولكن ...ها أنت قد رحلت و بقينا نحن نجتر مرارة اليأس مما كنا نحلم به ..!