بدأت في المقالة السابقة عرض أبرز المعاني التي تضمنها دستور المدينة، وهو العهد الذي أعطاه النبي لسكان المدينة من المسلمين واليهود، وجاز اعتباره أول عهد عالمي لحقوق الإنسان. كان المعنى الأول في الدستور تأكيد وحدة المسلمين، وقد شرحته باختصار، وهذه مجموعة من المعاني الرئيسية الأخرى التي ينطق بها الدستور. 2 البر في اللغة العربية أحسن الأخلاق وأفضل وجوه المعاملة للناس. وهذا هو ما نص عليه الدستور أوعهد محمد رسول الله الى القبائل اليهودية في المدينة. ويدخل في وجوه البر أن ينصر المسلمون واليهود بعضهم بعضا، وأن يتناصحوا، وأن ينصروا المظلوم ويقفوا في وجه الظالم. وبالإضافة إلى ذلك كله ينص عهد النبي على أن المسلمين واليهود أمة واحدة بالمعنى السياسي، وأن لكل من الطرفين حق النصرة والحماية على الطرف الآخر، وحق ألا يتحالف الطرف الآخر مع أي جهة أخرى ضده. 3 وضع العهد التزامات أخرى على أمة المسلمين واليهود، من أبرزها اعتبار المدينة أرضا مقدسة يحرم فيها الظلم والعدوان، وتكريم الجار ورعاية حقوقه على أساس أن الجار كالنفس، وهذه مرتبة للجار لا تعلوها مرتبة في أي ميثاق أو عهد آخر في التاريخ. وفي العهد أيضا تأكيد على ألا يعاقب الفرد أو القبيلة بجريمة حليف من الحلفاء. 4 في الدستور أيضا تحديد واضح للجهة التي تعتبر خطرا على أمة المسلمين واليهود الواحدة، وهي قريش التي تزعمت جبهة الشرك والإستبداد، والتي قمعت الإسلام وأتباعه في مكة، وخططت لاغتيال النبي، ولا شك أنها تخطط الآن لاستهداف المركز الإسلامي الجديد في المدينةالمنورة. فلا يحق لأي ساكن من سكان المدينة إذن، ولا لأي قبيلة من قبائلها، أن تتحالف مع قريش أو من يناصر قريشا، لأن ذلك يعني إعلانا للحرب على الجبهة المسلمة ومساهمة في الجهود الرامية للقضاء على الإسلام واستئصاله من جذوره. من يا ترى من المؤرخين يستطيع أن يستخرج من تراث العهود والمواثيق في تلك المرحلة التاريخية وثيقة دستورية أكثر حرية وديمقراطية وتسامحا والتزاما بمكارم الأخلاق من هذه الوثيقة؟ الجواب العلمي والموضوعي الوحيد: لا توجد أية وثيقة دستورية مماثلة. فإذا تجاوزنا تلك المرحلة التاريخية ونظرنا في سائر المواثيق والدساتير والعهود المعاصرة: ألا يعتبر دستور المدينة معلما رائدا ورئيسيا في تراث مواثيق حقوق الإنسان العالمية؟ الجواب العلمي والموضوعي الوحيد: نعم وبامتياز أيضا. بعد تحديد هذا الإطار الدستوري الهام، ركز النبي صلى الله عليه وسلم على تعزيز وحدة الجبهة المسلمة. فقد جاء إلى المدينة مهاجرون كثر من مكة ومن مناطق أخرى، ومعروف أن تزايد عدد اللاجئين في مدينة عدد سكانها محدود قد يحدث ردود فعل سلبية أحيانا، وربما صدامات عنيفة، كما يحدث في مناطق كثيرة من عالمنا في هذا العصر. (أواصل غدا إن شاء الله)