وضعت عشرة قداح، كل قدح كتب عليه اسم من أسماء الأبناء العشرة، وقام شخص محايد بإجراء القرعة، فكانت النتيجة أن وقعت على أصغر أبناء عبد المطلب وأحبهم الى قلبه: عبد الله. كل الآباء يعرفون ما لأصغر أبنائهم من موقع مميز في القلب من جهة المحبة والتدليل، وعبد المطلب لم يكن مختلفا عن بقية الآباء، وقد كان حبه لعبد الله قويا، ولاشك أنه كان يتمنى لو وقعت القرعة على غيره، لكن الأمر قد حسم، ومثل عبد المطلب لا ينقض نذرا نذره لربه، ولا يمكنه أن يطلب إجراء القرعة من جديد. كل هذا جرى أمام أعيان مكة وعامتها. وقد كبر عليهم جميعا أن ينحر عبد الله وفاء بنذر أبيه. فقرروا التدخل وطلبوا من عبد المطلب تأجيل ذبح ابنه حتى يستشيروا امرأة حكيمة كانوا يترددون عليها في خيبر. أصبحت قريش بأسرها طرفا في هذا الموقف المعقد، ولطالما قامت القبيلة العربية في تاريخها بأدوار اجتماعية عظيمة، وهي مازالت تفعل ذلك في المجتمعات التي بقي فيها للقبيلة دور وشأن. سمعت المرأة الحكيمة تفاصيل القصة ثم سألت زعماء قريش عن دية الشخص عندهم فقالوا إنها عشرة من الإبل. والدية عند العرب هي ما يدفعه أهل القاتل لأهل القتيل، إذا رضي أهل القتيل بدية مالية بدلا من القصاص الكامل الذي يعني النفس بالنفس. نصحت الحكيمة أهل قريش أن يعودوا الى الكعبة ويجروا القرعة مجددا بين عشرة من الإبل وعبد الله. فإذا وقعت القرعة على عبد الله فإن عليهم مضاعفة الدية، الى أن تقع القرعة على الدية. رضيت قريش بالإقتراح وعادت من عند الحكيمة العرافة من أهل خيبر راضية مسرورة بهذه التسوية، وهي تسوية قبلها عبد المطلب أيضا. جرت القرعة الأولى بين عبد الله وبين عشرة من الإبل فخرجت على عبد الله. قدمت قريش عشرة أخرى من الإبل، وجرت القرعة بين عبد الله وعشرين من الإبل، فخرجت مرة أخرى على عبد الله. وأضافت قريش عشرة إبل أخرى لكن النتيجة لم تتغير. وبقيت قريش تزيد وتزيد حتى قدمت تسعين من الإبل، لكن القرعة خرجت مرة أخرى على عبد الله. لم تتغير النتيجة إلا عندما وصلت الدية الى مائة من الإبل، فقد خرجت القرعة على الإبل وليس على عبد الله. هللت قريش مبتهجة بالنتيجة، فقد استطاعت أن تنقذ من الموت شابا من أنبل شبانها وأكرمهم. لكن عبد المطلب أصر على أن يتأكد، وأن يجري القرعة مرة ثانية بين الإبل المائة وابنه عبد الله، فخرجت القرعة مجددا على الإبل. ثم طلب عبد المطلب اجراء القرعة مرة ثالثة. كان يأخذ نذره لله على أعلى درجات الصدق والجدية. وكان يريد أن يطمئن أنه لم ينكث عهده أمام الله، ويثبت لخالقه أنه مستعد لتقديم أي تضحية مطلوبة لتأكيد صدقه. ووسط هذا الحرص الشديد من عبد المطلب على الوفاء بعهده لربه، كانت روح عبد الله، الذي سيصبح من بعد زوجا لآمنة بنت وهب، وأبا لرسول الإسلام، كانت روحه في الميزان. أجريت القرعة للمرة الثالثة فخرجت مرة أخرى على الإبل. وتنفس عبد المطلب الصعداء. وغمرت الفرحة أهل قريش الذين وقفوا كلهم وقفة رجل واحد لإنقاذ عبد الله. أحس الجميع أن العناية الإلهية تدخلت مباشرة لحفظ هذا الشاب النبيل. وربما طافت بخاطر عبد المطلب قصة أخرى مشابهة جرت في التاريخ البعيد، قصة لم ينسها العرب، وجعلها الإسلام من بعد عيدا من عيديه الرئيسيين. جعلها العيد الأكبر من بين العيدين الدينيين الوحيدين للمسلمين: عيد الفطر في نهاية رمضان، والعيد الأكبر، أي عيد الإضحى في نهاية موسم الحج. كانت قصة واقعية شديدة الشبه بما جرى لعبد الله وكان لها بطلان: الأول هو إبراهيم الخليل، والثاني هو ابنه اسماعيل، عليهما معا الصلاة والسلام.