يواظب سكان ولايات الجنوب على إقامة حفلات الزواج الجماعي في تقليد راسخ متوارث منذ مئات السنين، في ممارسة تعيشها مدينة غرداية على وقع حفلات الزواج الجماعي الذي يعد نمطا محببا لدى عوائل المنطقة. دأبت على المحافظة عليه منذ القدم في إطار التكافل الاجتماعي الذي يميز شمائل سكان الصحراء. ويعود هذا النوع من الزواج الجماعي إلى عهد قديم ظلّ يتقيّد به أهالي الناحية، حيث درج على تنظيمه سكان مختلف قصور سهل ميزاب إذ يعمل كل عريس ميسور الحال على إشراك عدد من الشبان الفقراء في الاستفادة من هذه المناسبة من خلال تحمل أعباء وتكاليف زفافهم، في صورة يسعى عرّابوها إلى توظيد دعائم التعاضد الاجتماعي وتكريس عرى التماسك بين سكان القصور القديمة المترامية على مستوى المنطقة المذكورة. وشهدت منطقة غرداية لوحدها بتنظيم 18 حفل زفاف جماعي في السابق، ما سمح لأزيد من 200 زوج بتحقيق أحلامهم التي ظلت تراودهم لمدة طويلة، وتقتضي مثل هذه المناسبات احترام التقاليد العريقة المتبعة من طرف المجتمع المحلي، من خلال تعيين شيخ مسن أو إمام ليقوم بمساعدة العريس على ارتداء الثوب الرسمي الخاص بمثل هذه المواعيد الاجتماعية وسط الابتهالات وترديد قصيدة «البردة» الشهيرة، ولا تخلو هذه المناسبات من أحاديث الذكر والإرشاد المرتكزة على فوائد الزواج والمغزى منه ودوره في تقوية التضامن الاجتماعي، إلى جانب الحديث عن دور الأزواج في تمتين أواصر المجتمع الإسلامي. وشهدت نهاية الأسبوع الماضي تنظيم عرس جماعي لفائدة 13 زوجا من العائلات المعوزة من حي ثنية المخزن الواقع بسهل وادي ميزاب وسط أجواء احتفالية متميزة، وتهدف هذه المبادرة التي تنظم في إطار النشاطات الاجتماعية والخيرية، إلى تمكين الشباب المنتمي للفئات الفقيرة والمحتاجة من إكمال نصف دينهم والتعفف وبناء أسرة طبقا لتعاليم الدين الاسلامي، وقد تميز الاحتفال الذي حضرته جموع غفيرة بتنظيم مأدبة غداء وتقديم هدايا من طرف المحسنين. ويتم إحياء حفلات الزواج الجماعي في منطقة ميزاب عن طريق جوق خاص يتشكل من أعضاء المجموعة الصوتية الميزابية، وهي فرقة هاوية يستخدم أعضاؤها مختلف آلات الطبل ويؤدون الأناشيد والمدائح الدينية، كما لا تخلو الأعراس الجماعية من موائد عامرة للضيوف، تتألف من طبق رئيسي هو طبق «العادة» الذي يبقى سيد مائدة أعراس الزفاف في وادي ميزاب، ويتشكل طبق «العادة» من الكسكسي المدهون بالسمن المحلي الفاخر ويمزج بالزبيب، ويزين بأبراج البيض المسلوق، ويرافق طبق «العادة» طبق آخر يتشكل أساساً من سبع شرائح عجينية بمقدار يتوسط كل شريحة، وأخرى خليط من الفلفل الأخضر والأحمر والطماطم المشوية التي يخفق فوقها صفار البيض حتى يتماسك الخليط وتقدم هذه الوجبة مع قطع الليمون. ويرى أرباب أسر وجمعيات في «حفلات الزفاف الجماعي» صيغة مثلى لتجاوز مأزق ظاهرة ارتفاع تكاليف الأعراس والمغالاة في المهور، ما خلف العنوسة التي تتربص بكثير من الإناث، تماما مثل العزوبية بالنسبة للذكور، ولعلّ إقدام أعيان وشيوخ المنطقة على إيجاد حل لهذه المشكلة، أسهم في استيعاب كثير ممن بقوا خارج منظومة القفص الذهبي. وتأخذ تقاليد الزواج في منطقة غرداية، أنماطا مغايرة لها أعرافها وتبايناتها عبر قراها الأساسية: «القرارة»، «بريان»، «العطف»، و»بني يزقن»، وتقتصر المصاهرة بين أبناء المنطقة الذين يتبعون المذهب الإباضي، حيث لا يتم الزواج إلا بين عائلات من عشيرة واحدة، يلتقي نسبها في جد واحد، ويعتبرون أن الزواج يكون غير صحيح إذا كان أحد طرفي الزواج من غير أهل المنطقة، كما أنّ التقرب إلى نسائهم أو رؤيتهن هو ضرب من المستحيلات. وتتميز أعراس وادي ميزاب ببساطة لا متناهية، فلا مكان لمظاهر الفرح الصاخبة من غناء ورقص، كما يحضر حفل الزفاف عدد محدود جداً من المدعوين والنساء والأقارب المقرّبين من العائلة، والملاحظ أنّ العروس ترتدي في يوم زفافها رداء ميزابيا يدعى «تيملحفت» يتميز بألوانه المزركشة المخلوطة بين اللونان الأخضر والأصفر ويتصف بمنمنمات هندسية صغيرة، كما لا تلجأ العروس إلى مصفّف الشعر، بل تقوم بعض السيدات المتخصصات بتزيين العروس في يوم عرسها، وهنّ يتوارثن هذه المهنة جيل بعد جيل، وتعرف باسم «التية»، ويعرفن ما يليق للمرأة الميزابية من تسريحة وحلّي وزينة، وذلك يتم بقليل من «الكحل» والسواك، وهي تقوم بتزيين العروس لمدة سبعة أيام كاملة، ترافق خلالها العروس في مأكلها ومشربها قبل زفافها إلى زوجها وعادة ما تتقاضى «التية» مبلغاً مالياً متواضعاً مقابل الخدمات التي تقدمها للعروس تبعاً للمستوى الاجتماعي لأسرتها. وتراعي العروس الميزابية الاعتدال في وضع الحلي التي يشترط أن تكون من الذهب يمنحه إياها العريس دون تحديد مسبق لنوعية الطقم أو وزنه أو تعدد أجزائه، وتسمى مجموعة الحلي الذهبية عندهم باسم «سرّمية»، كما يتعيّن للعروس أن تضع «الخلخال» في ساقيها ويشترط أن يكون من معدن الفضة الخالصة كرمز للصفاء والنقاء. من جانبه، يطالب العريس الميزابي، بدفع مهر لعائلة عروسه، ويخضع هذا المهر لنظام عرفي يطلق عليه «نظام العزابة» و»العزاب»، هو الرجل الذي اعتزل العوائق الدنيوية وعزب عن الملذات «أي امتنع عنها»، وطلب العلم وسيّر أهل الخير وحافظ عليها وعمل بها. ويقوم «نظام العزابة» وهو نظام ديني واجتماعي وتربوي أسّسه الشيخ أبي عبد الله محمد بن بكر مطلع القرن الخامس الهجري، يقوم بتنفيذ تعاليم هذا النظام بإشراف مجلس يضمّ أعيان المدينة من مهامه رعاية المصالح الاجتماعية للمجتمع، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويسهر على حل المشاكل والخصومات بين الناس ويحارب الآفات الاجتماعية ويشرف على الأسواق وحراسة البلدة إذا اقتضت الضرورة الأمنية ذلك، كما يتكفل هذا المجلس بتخفيف العبء المادي عن الشاب الميزابي من حيث تحديد حجم المهر والصداق وتكاليف العرس الذي لا يجوز أن تتعدى الحد المسموح به عرفا. ويرتدي العريس «بدلة الزفاف» التي يتوارثها عن أجداده وهي تتكون من سروال «الدوّالة»، الذي يتخذ شكلاً مدوّراً ما بين الفخذين ينتهي في الأسفل بنفس شكل السروال العصري، وتعلوه «كشكشات» رفيعة على مستوى الخصر، وفوق «الدوّالة» يضع العريس الميزابي ما يسمى «أحولي» وهو نوع من الأردية المصنوع من القطن الرفيع يشترط أن يكون ناصع البياض كرمز للصفاء والنقاء، ويضع كذلك «العقال» فوق رأسه كرمز لرجولته، وهذا العقال غالبا ما يكون مصنوعا من الحرير.