إنّ الوضع الاجتماعي المزري وغلاء المعيشة، الذي صاحبته كثرة متطلبات الحياة أفرز ظاهرة جديدة لم يعهدها مجتمعنا، ألا وهي عمل المرأة الليلي، بعد أن غزت عالم الشغل بخروجها من قوقعتها المرتبطة بالمنزل إلى عالم أفسح، أين أصبحت تطالب بالمساواة مع الرجل والوقوف إلى جانبه، ضف إلى ذلك ضرورة تأمينها لمستقبلها، ابتداء بسلاح العلم الذي يجب أن يضع أوزاره بإحدى مناصب الشغل. ومع ارتفاع نسبة عدد النساء العاملات واحتلالهن لمراكز اجتماعية مرموقة، يبقى عمل المرأة الليلي موضع جدل ومنازعة بين القبول والرفض، خاصة إن كان زوجها أو حتى عائلتها تظن أن الفترة الليلية قد تمس بهيبتها وسمعتها وكرامتها. ولنحيط أكثر بجوانب الموضوع اقتربنا من العاملات ليلا وكانت لهن هاته الآراء: الحاجة تلح والمريض ينتظر زبيدة، فتيحة، نبيلة، تاسعديت، جميلة، قابلات بكل من مستشفى بارني ومصطفى باشا الجامعي، أجمعن على أن العمل الليلي يعتبر واجبا في هذا الميدان، حيث أن حضورهن يعني إعطاء الحياة لمولود جديد وإنقاذ حياة الأم، فبقدر عظمة هذا العمل بقدر متاعب المناوبة الليلية، لأن معظمهن متزوجات وأمهات وواجبهن المهني يفرض عليهن المناوبة مرة كل أسبوع على الأقل، فهن تتعبن أولا وتهملن قسطا كبيرا من واجباتهن الأسرية تجاه الزوج والأولاد، فالطرف الآخر (الزوج) لا يتفهم الوضع أحيانا ويخلقون الكثير من المشاكل، قد تصل إلى حد وضع الزوجة أمام خيارين لا ثالث لهما، إما بمواصلة العمل، أو الاهتمام بالأسرة فقط. وأمام هذا الوضع المتدهور للمستوى المعيشي قد تضطر المرأة لاختيار عملها إما بإقناع أسرتها بضرورة ذلك عن طريق الإسهام براتبها في تحمل مصاريف البيت، وإما أن تثبت جدارها بالتوفيق بين عملها وواجباتها الأسرية. إن نسبة الطبيبات والممرضات المناوبات ليلا تصل إلى 28 % من المجموع الكلي للعاملين بالقطاعين الصحيين المذكورين سالفا، ومع هذا تبقى الخدمات جد متدنية.. لان الواقع المعيشي يثبت أن من يعملون ليلا (خاصة النساء) يفضلون النوم أو مشاهدة التلفاز على الالتفات إلى الآهات المنبعثة من رواق الاستعجالات. شرطيات في دهاليس الليل في العديد من مراكز الشرطة بمحافظة الجزائر الكبرى، التقينا نساء شرطيات يعملن ليلا من بينهن “وفاء” ذات الستة والعشرين ربيعا، التي تحدثت لنا عن طبيعة عملها ومختلف متاعبها بهاته الكلمات: “إن دخولي عالم الشرطة كان حلما راودني منذ طفولتي، حققته بعد جهد جهيد ومتاعب عدة، رغم أن معظم أفراد عائلتي يعملون في الميدان، وخرجت لأول مرة كشرطية مرور في ماي 1999، علما بان دفعة التخرج كانت في مارس من نفس السنة، غير أنني لم أتأقلم مع الوضع لان الشارع الجزائري لم يتقبل الأمر بسهولة، فرغم أنني كنت أرتدي زي الشرطية وأحمل سلاحا، لكن الكثير من الرجال لم يعاملونني بالشكل المطلوب وتعرضت لعدة مآزق محرجة، ولولا وجود ببعض الزملاء على مقربة مني لكانت العاقبة وخيمة، وفضلت في النهاية أن أنقل إلى قسم العمل الليلي أين يقتصر عملي على مكتبي مع زملائي، وأضطر من حين لآخر للخروج في مهمة طارئة أو مستعجلة لا غير، ومع هذا فعائلتي تلح علي أن أتوقف عن العمل الليلي، لأنها تعتقد أن الليل غول قد يأكلني، هذا ما يجعلني في صراع دائم معهم. وخاصة المضيفات.. صوفيا ودينا، مضيفتان بالخطوط الجوية الجزائرية، تعتبران أن العمل الليلي عندهن وعند أسرهن أمر هين وجد عادي، فالليل والنهار عندهن سواء، لأن ضرورة عملهن تقتضي التأقلم مع هذا الوضع بالذات، وإلا لماذا اختارتا هذا العمل، وحتى زوجيهما في نفس الميدان، لذا فإنهما يتفهمان الوضع وما دام الزوج إلى جانب زوجته أثناء أدائها لمهامها العملية، فلا مانع من عملها ليلا، أما بالنسبة للأولاد فلا توجد مشكلة، لأن الجدة أو المربية ستسهر حتما على رعايتهم. الأخلاق تفرض رأيها راضية، عاملة بالمؤسسة الوطنية للتلفزة الجزائرية تقول: “إن العمل الليلي بالنسبة لي ولجميع زميلاتي في المهنة شيء عادي جدا، فليس هناك دافع للقلق أو النفور منه، فيكفي أنني واعية وراشدة لأدرك تماما لماذا أنا هنا؟” ولا يهمني كلام الناس ولا معاكسات الشباب في الشارع، فنحن في زمن الوقت الذي فيه كالسيف إن لم تقطعه قطعكن وأنا على الأقل أستر نفسي وأكف يدي ولساني عن كل ما لا ينفع ولا يشبع. وماذا تقولين عن دخولك متأخرة؟ تقول: لا أعتبره تأخرا لأنني تعودت عليه ولدينا النقل الخاص والمضمون، بطريقة محترمة ولا أرى في ذلك خرقا للعادات والتقاليد وديننا الحنيف لا يمنع ذلك، فانا لا أجد فرقا بيني وبين الرجل لأداء هاته المهنة الليلية المحترمة. الآنسة “كلار” عاملة بإحدى قاعات الشاي ليلا، سألناها عن عملها فأجابت: “كما ترون فالزبائن في الصالونات من كل صنف، فيهم من يتفهم الأمر وفيهم من لا يعنيه شيء”، سألناها عن قصدها فردت: “كلامي واضح فبعض الزبائن لا يتقبلون الواقع، لأنهم لم يشربوا مرارة الفقر، والعمل الشريف لا عيب يذكر منه، لأنه يمنعني من ذل التسول والاتكال على الغير، أما الصعوبات والمتاعب فتتمثل أساسا في المضايقات الكلامية والمتابعات بالأعين، حيث أن بعض الرجال لا يملكون الشعور الإنساني، فهم متوحشون، حيث لا أجد سوى الحيلة والذكاء وأحيانا البسمة للخروج من المأزق، ومرات أخرى بالتجاهل والتناسي، حتى لا أثير المشاكل لرب العمل فهو رجل محترم وودود ويعاملني كابنة له، وإن كان غير ذلك فإنني كنت سأترك العمل عنده، وبقائي مرتبط فقط لكوني جد مرتاحة”. ماريا خادمة بحانة هي قصة لدراما اجتماعية صادفتنا ونحن بصدد القيام بهذا التحقيق، مأساة جعلتنا نكتشف أن هناك من تعمل الليل مجبرة مضطرة لأنها لم تختر طريقها بل قذفت إليه قذفا. ماريا هكذا يناديها كل من يعرفها، لأنها مجهولة الاسم والأبوين وضعت بإحدى الشوارع أمام إحدى المستشفيات لتدرك مع مرور الأيام أنها ثمرة خطيئة، لم تكن سببا أو حتى طرفا فيها، لتجد نفسها في كنف عائلة لم ترحم ضعفها الأنثوي، إذ سرعان ما كبرت وأصبحت المرأة التي تقيم عندها تحتجزها نهارا، لتقوم بكل الأعمال المنزلية وتطردها ليلا قائلة لها: “روحي تخدمي على شرك طالبة منها أن تحضر مبالغ مالية بأي طريقة، حتى وإن عرضت جسدها للبيع. وظلت تجوب الأزقة والشوارع حتى ساقت بها الأقدار إلى حانة تعمل بها تلبي حاجيات الزبائن من المشروبات الكحولية، تغسل الأقداح وتهتم بأمور المخزن، القارورات والمال فالليل هو صاحبها لان النهار عندها يبدأ عند غروب الشمس، فهي لم تر نور الصباح طيلة أربع سنوات وربما لن تراه أبدا؟ الأم والزوجة وسيدة المجتمع إن عمل المرأة الليلي في بداية الأمر يكون جد صعب، يلزمه التصميم حتى يقتنع الزوج وأفراد المحيط الأسري ككل، لأن الألسنة اللاذعة لا ترحم ونظرات الاستغراب لا تنقص حتما والحديث عن عمل المرأة في الفترة الليلية بانعكاساته السلبية والايجابية ينطلق من الاقتناع بضرورته، والتأكيد عليه لان عمل المرأة بصفة عامة يعتبر ضرورة حيوية نفسية واجتماعية، يحسن مكانتها في الأسرة والمجتمع ويترك تأثيراته العميقة في مختلف المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، بأنها بعملها تساعد على دفع عجلة التنمية نحو الأمام. كما أن المرأة تتمتع في الغالب بفترة تنظيمية عالية تجعلها قادرة على التوفيق بين مختلف الأعمال التي تطالب بالقيام بها، لذلك نرى أن المرأة العاملة ليلا في مجتمعنا في صراع للتوفيق بين مسؤولياتها المهنية والعائلية، ولإقناع جميع من حولها بان عملها لا يؤثر على أدوارها الأخرى، لذا نراها تبذل جهودا مضاعفة من أجل تحقيق التوازن. فحل مشاكل المرأة العاملة ليلا تبدأ بمساعدة الزوج وتفهمه، وكذا الأولاد ولا سيما فيما يخص الأعمال المنزلية، وتنتهي بزيادة الخدمات المقدمة للمرأة من قبل باقي أفراد المجتمع. ويبقى العمل الليلي بالنسبة للنساء الجزائريات محل جدل واسع وعريض تحكمه مجموعة من القيم الاجتماعية والثقافية، يصعب الحسم فيها رغم أن الفاصل بينها وبين نهاية القرن العشرين لا يتعدى الأيام القلائل.