أكّد عرّابو مهرجان الجزائر الدولي للمسرح اتجاه هذا الموعد الركحي السنوي إلى تصنيع مسرح حرّ ينمو بالمراجعة المستمرة، وبرسم ندوة خاصة على هامش فعاليات المهرجان الدولي الثالث للمسرح بمدينة بجاية، حثّ نخبة من الممارسين والدراماتورجيين والأكاديميين على نبذ الشللية والنزول للميدان، على درب جعل المسرح عنوانا لانفتاح عربي موصول. حيث يعتقد الناقد المسرحي “إبراهيم نوّال” محافظ المهرجان، أنّ الأخير بات يمتلك موقعا هاما جدا بين المهرجانات الدولية، من حيث تحوله إلى حلقة جميلة تتناغم مع فضول الإنسان العربي، المغاربي، الإفريقي، الأوروبي، الأمريكي والآسيوي، وتساؤلاته في ضيافة بلد حرّر نفسه من احتلال مزمن وتمرّد على التبعية الثقافية والفكرية، وله إمكاناته ونظرياته وشخصياته على منوال الراحلين الأفذاذ “مالك بن نبي” و«محمد عرقون” وغيرهما. ويشدّد نوّال على طموح مهرجان الجزائر الفتي للتباعد مع الدوغمائية ومعانقة العالمية، بالتعاون مع كل من لديه الرغبة في الاستكشاف ومتشبع بروح الانفتاح والشراكة ورسكلة التجارب الأخرى، ويشير محدثنا إلى تطلع متزايد لتكريس التوثيق والبحث وإثارة الأسئلة، بل وأيضا إلى إذكاء الممارسة والتعلم مع الآخر بجانب التواصل خارج الدوائر المغلقة، وهذا ما يؤسس لمسرح حرّ وديمقراطي يتكئ على إدامة المراجعات المستند إلى الفكر المتبحّر والمتسّع النابذ للأنماط الجافة والمسطّحة. كما يكشف محافظ مهرجان الجزائر عن سعي حثيث للاستثمار في الشباب كواجهة للطاقات الخلاّقة والمبتكرة، وهي خطوة ستثري المسرح الجزائري ويدعم الحوار الذي دعا إليه المفكر العملاق مالك بن نبي، حتى يصبح المهرجان من الفضاءات المهمة في سيرورة فنون العرض أو ما يُطلق عليها “الفنون الحية” وتطعيمها بميكانيزمات حديثة، مع الالتصاق بالجذور وفاء للمفاهيمية الأرسطية، ولا ينبغي تناسي أنّ النخيل يعطي الثمار في الصحراء.إلى ذلك، لفتت المخرجة المسرحية العراقية د.عواطف نعيم، إلى أنّه بفعل المتغيرات أضحت المهرجانات محددة في العالم العربي بعد توقف مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، وكذا مهرجان بغداد، وبقاء مهرجانات الشارقة ومكناس والرباط، وتبقى هذه المواعيد برأيها فرصة للمسرحيين العرب كي يعلنوا عن تواصلهم مع ظاهرة خطيرة، متجددة وحيوية هي المسرح الذي يعلّم ويربي وينشر قيم المتعة والجمال، بعيدا عن عوارض الصراع وصدام الإيديولوجيات والمرامي السياسية. وبشأن موقع مهرجان الجزائر من هذه التعاليم، تقول عواطف بقربه منها، عبر توفيره مناخا للقاء والتعرّف على إضافات التجربة العربية في المنجز المسرحي، واستفادتها من نظيرتها الأوروبية على أصعدة القراءة والحداثة وما بعد الحداثة، ما يُنتج أعمالا ومشاريع مثمرة توحّد العرب جميعا، ما يحوّل هذا الركح الصغير بعوالمه وحيواته إلى وسيلة لتعلن عن تعافينا وكوننا أمة منفتحة وليست منغلقة كما يُروج عليها. من جهتها، تسجل الناقدة السعودية الكتورة ملحة عبد الله، أنّ مهرجان الجزائر لا يزال في بداياته، لأنّ ثلاث سنوات قد تفصح عن ملامح لكنها لا تعطي كل الصورة، وتقرّ د.ملحة بمعاناة مهرجان الجزائر من نقائص كثيرة، أبرزها غياب مخرجين وكتاب عالميين، بيد أنّها ترى في الاحتفالية مشروعا جيدا تبعا لكون مبدعيه بعيدون عن الشللية، فضلا عن نوعية ضيوفه وطبيعة الأوراق التي يتطرق إليها، ما يمنح هامشا للتخلص من نسق البراويز المعلّقة على الحيطان التي لا تحمل إلاّ زجاجا وخيوطا وبعضا من الخشب. وبمنظار السينوغراف الأردني الدكتور فراس الريموني، فإنّ مهرجان الجزائر تقّدم بقوة كبيرة وصار يضاهي مهرجانات عمرها ثلاثة عقود رغم أنّ سنه لا يتجاوز الثلاثة أعوام، ويشيد الريموني بموقع المهرجان في مدينة ساحرة جدا تزاوج بين الغابة، الجبل والبحر، وهذا لا شك انعكس على نفسية المشاركين في تظاهرة فتية. وقدّر الريموني أنّ مهرجان الجزائر بدأ يأخذ مكانته عربيا ودليا من خلال استقباله خيرة المفكرين والفنانين بكافة أطيافهم ومنابعهم، وكذا في انتقاء عروض ذات قيم جمالية وفلسفية عالية المستوى، كما أشاد الفنان الأردني بتميّز المنتدى العلمي للمهرجان، من حيث خوضه في التراث، والمسرح الشعبي والصورة، على نحو جعل المحفل نافذة مهمة للمسرح الجزائري وجغرافيته ومكانته، وكذا أيقونة للاطلاع على التجارب العربية والعالمية، ومحطة لتلاقي باحثين ومفكرين، ما ينبئ ببقائه في المستوى ذاته وارتقائه أكثر. من ناحيته، يلفت الناقد المسرحي الجزائري “عبد الناصر خلاّف”، إلى كون المهرجان ما يزال ينمو وهو امتداد طبيعي للمهرجان المحلي المسرح المحترف الذي استطاع بحسبه أن يهيمن على الحركة المسرحية، ليس في الجزائر فحسب بل أيضا على مستوى الوطن العربي، حيث كانت المراكحات المتتالية منذ ربيع العام 2006، فرصة للموازنة بين ما هو موجود في الجزائر وخارجها. وإذ أشار خلاّف الذي ترأس المنتدى العلمي، إلى أنّ العروض سواء الإفريقية أو الأوروبية لم تعبّر بصدق عن مدى ما وصل إليه الإبداع المسرحي في القارة العجوز ونظيرتها السمراء، فإنّه توقع أن ترتسم الصورة النهائية لمهرجان الجزائر مع دخوله الطبعة السادسة أو السابعة، خصوصا مع الاحتضان الذي بات يحظى به ليس من المحترفين فقط، بل أيضا من الجماهير التي باتت ترى في الموعد حدثا مسرحيا وصوتا للجزائر، والضفاف الأخرى. وأبرز خلاّف طابع الحميمية الذي يتسم به المهرجان، ولعبه دورا لا يستهان به في مجال الثقافة السياحية، خصوصا بعد تنقله إلى مدينة بجاية الشهيرة بطابعها السياحي، ما جعل المسرح يوظف كأداة ترويج للسياحة وما يترتب عن الأخيرة من منافذ.ويبدي الأكاديمي الجزائري الدكتور إدريس قرقوة، قناعته بأنّ المهرجان يجب أن يجد مكانته ليس بين المهرجانات العربية فحسب، بل وكذلك المهرجانات الدولية، تبعا لفرادته وجمعه بين ألوان مسرحية من جميع القارات، ويقدّر قرقوة أنّ جمع فرق مسرحية من الغرب وملاقاتها بأخرى من الشرق سيسمح بإنضاج تلاقح فكري وفني، والسماح بمواكبة سائر التجارب، كما يعلّق قرقوة: “المهرجان يحفّز على الغوص أكثر لكي يتم صياغة شيئ من الخصوصية في تجربتنا المسرحية”، وبالنسبة للمخرج الجزائري البارز خالد بلحاج، فإنّه رأى في المهرجان إياه، نفسا جديدا وميدانا لاستقطاب طاقات جديدة بعدما خسر المسرح الجزائري في السابق الكثير والكثير، بيد أنّ بلحاج ينتقد تغلب سلبية التكرار والاجترار على العروض المقدمة، وما سماه”الدوران في حلقة مفرغة.” ويركّز بلحاج وهو أحد مؤسسي مسرح البليري بحاضرة قسنطينة، على حتمية عدم الخلط بين الممارسة كآلية لخلق الجمال في المسرح، والايغال في التنظير، ويتصور أنّ رفع مستوى مهرجان الجزائر مرهون بالتنّوع، والاقتراب من الفكر المسرحي في فرنسا وبريطانيا وأمريكا وغيرهم من صنّاع الفعل الركحي، ومن أقحموا استعمالات التكنولوجيات الحديثة مسرحيا في القرن الأخير،وعليه يجزم بلحاج بأنّ التحدي القادم يكمن في خلق فرجة مغايرة من خلال مسرح تكنولوجي حداثي معبّر. وبدوره يذهب الناقد الجزائري محمد بن ديمراد، إلى أنّ مهرجان الجزائر لا يزال يفتش عن هويته، ولا يمكن بحسبه الحديث عن مهرجان دولي بأتمّ معنى الكلمة، ويعتقد أنّه مع التراكم والتعميق سيجد المهرجان المذكور مكانته المنشودة، مناديا باتجاه المسرح إلى الجماهير وعدم انحسار العروض في الفضاءات المغلقة، طالما أنّ ما يشهده الواقع المحلي من مشكلات، يستدعي نزول فرسان الركح إلى الميادين، حتى يتم استبعاد كل ما هو افتراضي.