استقطاب حادّ داخليا.. ومخاطر خارجية بالجملة مرّت الذكرى الثانية والخمسون على قرار وقف إطلاق النار الفرنسي في الجزائر، أو ما يُصطلح على تسميته في بلادنا بعيد النصر، في أجواء (احتفالية) باهتة نوعا ما، على غير العادة، ويبدو أن إرهاصات الساحة السياسية، وما يجري في البلاد من (حروب سياسية) وزلازل اجتماعية ونعرات جهوية، قد ألقت بظلالها على كل شيء، ولم يعد خافيا على أحد أن نار الفتنة تهدد الجزائر وتتربص بها من كل جانب. (الجزائر في خطر).. يكاد يكون العنوان الوحيد الذي يتفق الجزائريون جميعا، على اختلاف ألوانهم السياسية وغير السياسية، عليه هذه الأيام، فكبار المسؤولين يرددون أن البلاد تواجه أخطارا كثيرة (دواؤها الاستقرار)، وأبرز المعارضين للسلطة يقولون أن الجزائر أمام منعرج خطير، وأنه لا سبيل لتجاوزه بنجاح غير التغيير. وبين هذا وذاك تعيش الجزائر استقطابا داخليا حادا تكرّسه حملات الشتائم والتخوين هنا وهناك، وتعكسه نزعات الأحقاد والضغائن المتفشية في الساحتين السياسية والإعلامية. استقطاب حادّ تشهد الجزائر هذه الأيام حالة من الاستقطاب السياسي وبدرجة أقل إعلاميا لم تشهدها منذ الانفتاح السياسي والإعلامي الذي عرفته الجزائر مطلع تسعينيات القرن الماضي، وهو استقطاب تجلى في أبرز صوره هذا الأسبوع من خلال شتائم يتبادلها سياسيون ويلوكها إعلاميون، وكذا من خلال محاولة بعض الجهات، هنا وهناك إحياء النعرات الجهوية النتنة، من غرداية إلى منطقة الأوراس. ويبدو التلويح بمسيرات واحتجاجات (مليونية) بطابع جهوي قبلي مثيرا لمزيد من المخاوف بخصوص حاضر ومستقبل الجزائر التي يُفترض أن تكون قد تجاوزت بعد 52 سنة من الاستقلال كل الحساسيات الجهوية والنزعات القبلية التي تذكرنا بالعصبية الجاهلية. مخاطر خارجية لم يعد الحديث عن وجود مخاطر خارجية تتربص بالجزائر مجرد (هوس) أو شماعة أو وسيلة لتخويف الجزائريين من جهة ما، بقدر ما أصبح أمرا واقعا، خصوصا في ظل هشاشة الوضع الأمني بالعديد من البلدان المجاورة للجزائر، وخاصة ليبيا وتونس ومالي. وإضافة إلى ذلك يسيل النفط الجزائري لعاب واشنطن التي تضع عينها بشكل ملحوظ على صحرائنا الشاسعة التي تكتنز ثروات كبرى، ولا تستبعد بعض الدراسات الغربية وجود مخطط أمريكي للتدخل في الجزائر عند الحاجة بهدف تأمين مصالح أمريكا والحصول على (مواقع جديدة). وإضافة إلى فرنسا التي لم تكف يوما عن التحرش بالجزائر والطمع في ثرواتها، يبرز في الآونة الأخيرة دور متزايد لأمريكا في منطقة شمال إفريقيا والساحل، ويبدو واضح أن كلا من واشنطن وباريس مستعدتان للتقاتل على الجزائر، بالنظر إلى ثروات بلادنا وموقعها الهام جدا. ولن نبالغ إن قلنا أن أمريكاوفرنسا تتقاتلان فعلا على الجزائر، ولكن بطرق غير مكشوفة، بعيدا عن الأنظار! وإذا كانت باريس معروفة بأطماعها المقيتة في بلادنا، فإن أطماع أمريكا بدأت تظهر للعلن، وفي هذا السياق أشار الموقع الإخباري الفرنسي (إيغالتي إي ريكونسيلياسيو) إلى أن أمريكا بدأت تنتبه إلى منطقة جنوبالجزائر الغنية بالبترول والغاز الطبيعي، والمتاخمة للدول الإفريقية الغنية باليورانيوم. وكان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، قد أكد وجود أطراف أجنبية تحاول زرع الفوضى في الجزائر من خلال التسويق ل (ربيع جزائري)، وهي نفسها الأطراف التي فتحت عدة جبهات على الحدود الجزائرية انطلاقا من ليبيا، تونس ومالي تقودها جماعات متشددة، مشيرا إلى أن بلاده تتابع عن كثب آخر التطورات الحاصلة في منطقة شمال إفريقيا والساحل، ومحذّرا الجزائر من أن تقوم الأطراف ذاتها باستخدام نعرات الأقليات في هذا البلد، كنواة لإحداث الفتنة. "المارينز" على أعتاب الجزائر! سمحت السلطات التونسية بإنزال عسكري أمريكي في جنوبها بالقرب من الحدود الشرقية الجزائرية، حيث ذكر الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع التونسية توفيق الرحموني، أن قوات من المارينز تتواجد بتونس في إطار تدريب العسكريين والأمنيين التونسيين على مواجهة الجماعات الإرهابية ضمن برنامج مشترك، حسب تعبيره. وقال توفيق الرحموني إن هذه العملية تدخل في إطار برنامج تدريب مشترك بين القوات التونسية ونظيرتها الأمريكية، و تابع محاولا تبرير الخطوة، أن عناصر الوحدة الأمريكية هم فريق تدريب متنقل زار تونس خلال فيفري الماضي لإجراء التدريبات، مشددا أن هذه العملية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، موضحا أن التقرير الذي نشرته صحيفة (لوس انجلس تايمز) الأمريكية حول عملية إنزال سرية لعناصر من الوحدات الأمريكية الخاصة عبر مروحية في قاعدة عسكرية بالجنوب الغربي التونسي، غير دقيق. وكانت وسائل إعلام جزائرية وتونسية أثارت موضوع وجود قواعد عسكرية أمريكية في جنوبتونس بالقرب من الحدود مع ليبيا والجزائر، وجددت صحيفة (لوفيغارو) الفرنسية التأكيد مؤخرا، أن وزارة الدفاع الأمريكية تعمل على تطوير قاعدة عسكرية مهملة في الجنوبالتونسي بهدف متابعة العمليات الجهادية في ليبيا المجاورة، لكن الناطق باسم وزارة الدفاع التونسية حاول- دون جدوى-نفي تلك المعلومات، وزعم أنها مجرد شائعات كاذبة لا أساس لها من الصحة. الجزائر بحاجة إلى مصالحة جديدة! في ظلّ المخاطر الخارجية العديدة، وحالة الاستقطاب والتشنج الداخلي، لن نبالغ إن قلنا أن الجزائر اليوم، وبعد نحو عشر سنوات على إقرار مسعى المصالحة الوطنية الذي سمح بلملمة جراح المأساة الوطنية، وأعاد ثلاثة آلاف مسلح إلى أحضان مجتمعهم، باتت بحاجة ماسة إلى مصالحة جديدة من نوع آخر، يتوقف بموجبها الجزائريون مهما كانت توجهاتهم وانتماءاتهم عن التراشق بقنابل الأحقاد والشتائم، ويتوافقون على أرضية سياسية مشتركة تسع الجميع، وفيها مكان للجميع، ولا حجر فيها على رأي أحد.. لا يعتبر فيها الموالي للسلطة (شياتا) بالضرورة، ولا يكون فيها المعارض للسلطة خائنا وعميلا بالضرورة أيضا.