مساهمة: فاطمة الزهراء بولعراس ذكّرني أحد مقالات الأستاذ خليفة بن قارة في جريدة (صوت الأحرار) بعنوان (الاتّساخ اللّغوي إلى أين؟) بما ينطوي عليه الصدر من حسرة وألم حول تقهقر اللّغة العربية في الجزائر وتراجعها على جميع المستويات. لقد ذكر الكاتب ثلاث صور بائسة تجعل المجتمع الجزائري يحيد عن مبادئه بإصرار وترصّد، وبالطبع هناك الكثير من الصور الأخرى التي يعجّ بها المجتمع وتستنكرها النفوس الأبية التي ما تزال ثابتة على عهد الوطن والشهداء، ومهما كانت الصور قليلة أو كثيرة فإنها باتت فاعلة وربما تكون هي سبب كلّ أزماتنا لأن الانقسام اللّغوي هو الذي يعمّق الفروق والشروخ بين الجزائريين وهو الذي أسّس للنّظام الطبقي في بلادنا، وقد ارتبط التحضّر والتقدّم بالرطانة بلغة (فافا) مع أن ذلك ليس صحيحا، وارتبط التخلّف و(الرجعية) بالمعربين ثمّ مؤخّرا بالإسلاميين. إن بُعد بعض الناطقين بها عن واقع شعوبهم وفراغ وجدانهم وجهلهم للّغة الأمّ جعلهم يكرّسون نفس الوضع الذي تركه المستدمر رغم أنف الدستور الذي ينص على أن اللّغة العربية هي اللّغة الأولى فيه. إن خطورة الوضع (اللّغوي) في بلادنا آتية من سيطرة الإدارة (العليا) التي يرطن أغلب من فيها بلغة (فولتير) على حياة المواطن اليومية. وبقدر ما كانت بعض الجهود المخلصة تعمل على تثبيت لغة الأجداد كانت جهود حثيثة تعمل في الخفاء على الضرب بها عبر الحائط مع المبالغة في إهانتها ووصف أهلها بأقذع الأوصاف والنعوت، وبهذه الجهود الخفية (الخبيثة) تمّ إفشال مشروع اللّغة الإنجليزية في برنامج المدرسة الأساسية، لقد كاد هذا المشروع ينزع تاج اللّغة الفرنسية (الذي تزيّنت به الجزائرالمستقلّة) لولا التربّص وسبق الإصرار الذي أطاح بوزير التربية الأسبق علي بن محمد إثر ما سمّي بفضيحة تسرّب أسئلة البكالوريا، والتي ما هي سوى حلقة مفضوحة أظهرت مدى سيطرة اللوبي الفرنكفوني على الأمور في الجزائر. وقد حاول بن محمد بكلّ ما أوتي من جهد وفُرص أن يفضح هذه الممارسات وداوم على نشر مقالاته المتتالية بعنوان (من أجل مدرسة أصيلة ومتفتحة)، لكن في النّهاية ونظرا لأن الحصار الإعلامي المضروب على هؤلاء كبيرا فإنه لم يتوصّل إلى الكثير رغم أنه أشعر بخطر ما يقع من تآمر فاضح على لغتنا. ما يدمي القلب ويعلّ الفؤاد أن بعض (المعرّبين) أنفسهم يستصغر أبناء لغته إذا ما حدث ووصل إلى مراكز القرار أو المسؤولية، لأنه ورغم ثقافته ما يزال يحمل فكرا انهزاميا ويعتقد أن للذكاء ألوان ولغات، وهذا ما عاينته بنفسي في أحد اللّقاءات الأدبية حضر فيها إعلاميون بعضهم دكاترة، أصرّ أحدهم في مناقشة جانبية أن المناقشات الفلسفية العميقة لا يفهمها إلاّ من درس بلغة (فافا). وهكذا وحسب رأي هذا الدكتور يكون الذكاء فرنسيا بامتياز. صحيح أن بعض من يفكّرون (بالعربية) حسب رأيه مقرفون وتافهون، لكنهم قليلون ولا يمثّلون شيئا أمام المنتمين إلى الفكر الإنساني الذي لا يعترف بالحدود الجغرافية أو التاريخية ولا ينظر إلى الماركات العالمية و(تسريحات الشعر) التي تميّز (المتحضّرات) غير المتحجّبات اللواتي يعجبن (الدكتور صاحب الفكر الانهزامي). لا أريد أن أزيد الطين بلّة وأشكّك في وطنية أحد ولا أزايد في قضية حبّ الوطن، فلا أحد يملك ترمومتر تقاس به درجة حرارة ذلك الحبّ، لكنني أكره كثيرا من يقوم بتدمير نفسه طمعا فيما بنى غيره بينما هوفي استطاعته أن يكون أحسن منه. إن من يكون في فكره كنبات القرع (يمد لبرة) على تعبير المصريين تكون أفكاره أكثر ضررا من غيره لأنه مع الأسف لا يحترم نفسه ويحتقرها، وأعتقد أننا بمثل هذا فشلنا في ترسيخ لغتنا الأمّ. وقد أدهشني موقف أحد النواب الإسلاميين الذي وبعد انتخابه في المجلس الوطني بادر بنقل بناته من (القرية) إلى العاصمة وأدخلهن المركز الثقافي الفرنسي ليتعلّمن (اللكنة) الفرنسية ويبدين من علية القوم في اعتقاده. الغريب أنه وبعد نضال مرير بشعار مثير (عليها نحيا وعليها نموت وعليها نلقى اللّه) عاد هذا النائب من حيث المبتدأ وأصبح يتفاخر بالمعارف الجدد (المتحضّرين) ولم يعد إلى قريته بعد ذلك إطلاقا بعد أن اكتشف الجنّة في (الولايات المتّحدة الأمريكية) عند زيارته لها في وفد برلماني، وأعتقد أنه نسي (لا إله إلاّ اللّه) التي سجن وضرب وهو يهتف من أجلها. إن مصيبة الجزائر في إفلاس فكر بعض أبنائها وفي انهزامه وشعوره بالنقص أمام الآخر وخاصّة إذا كان هذا الآخر (فرنسيا) أو يرطن بالفرنسية ولن يستقيم ظلّ العربية في بلد عوده أعوج ولن تستقيم الأعواد المعوجة إلاّ إذا غرست في تربة خصبة هي تربة المنظومة التربوية المبنية على القيم والأخلاق الرفيعة، والتي أهمّها الانحياز إلى قيم الشعب العربي المسلم وتوصيل (الحضارة المزعومة) إليه بلغته التي ضحّى من أجلها لا بلغة غيره التي ما يزال يتيه فيها بعد أكثر من خمسين سنة من الاستقلال وإلاّ فلا داع لأيّ شعار ولا لحرث في البحار. وتحية عرفان ووفاء لروح ذلك الذي قال (إن الفرنسية منفاي)، لكن يبدو أن الكثير من أبناء بلدي يحبّون العيش في المنفى بعيدا عن شعوبهم وأوطانهم.